كيف تدير أوكرانيا اقتصاد حرب
17 يناير 2023
محافظ البنك المركزي الأوكراني يتحدث إلى فريق "بلدان في دائرة الضوء" عن تحديات الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والمالي
تسبب الغزو الروسي في معاناة إنسانية واقتصادية بالغة في أوكرانيا التي تواجه شتاء تهز أجواءه الضربات الجوية والهجمات الصاروخية على البنية التحتية الحيوية. وقد وافقت الإدارة العليا للصندوق هذا الأسبوع على طلب أوكرانيا برنامجا يتابعه خبراء الصندوق بمشاركة المجلس التنفيذي – وهو أول ترتيب من نوعه – للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وتحفيز المانحين على تقديم التمويل.
وقد تحدث أندري بيشني، محافظ بنك أوكرانيا المركزي، في واشنطن مع فريق "بلدان في دائرة الضوء" عن التأثير الاقتصادي للغزو الروسي، وتحديات الحفاظ على الاستقرار المصرفي والمالي في وقت الحرب، وتوقعاته للبرنامج الذي يتابعه الصندوق، والتحركات الرامية إلى إنعاش أسواق الدين المحلية وتخفيف قيود الأزمة، وكيف أثر عليه ضعف السمع.
مضت 10 شهور تقريبا على بداية الغزو الروسي لأوكرانيا. ما هو تأثير ذلك على الاقتصاد الأوكراني وكيف ظل المجتمع قادرا على الصمود؟
على مدار العشر شهور الماضية، صمدت أوكرانيا أمام هجوم عسكري هو الأطول أمدا والأوسع نطاقا على المستوى الأوروبي منذ الحرب العالمية الثانية. وأبدى الأوكرانيون صلابة هائلة. وتأثير الحرب من الصعب حتى استيعابه. فطبقا لتقديراتنا، ستخسر أوكرانيا ثلث إجمالي ناتجها المحلي على الأقل في 2022. وأثناء الأسابيع القليلة الأولى، كانت الحرب دائرة في كل مكان تقريبا، سواء عن طريق العمليات البرية النشطة أو الضربات الجوية. كانت فترة بالغة الصعوبة. غير أن الشعب الأوكراني ومؤسسات الأعمال الأوكرانية سرعان ما بدأت تتعافى من الصدمة الأولى للحرب الشاملة. وعاد بعض من نزحوا في البداية. وتكيف الاقتصاد الأوكراني مع ظروف الحرب. وأنشئت قطاعات اقتصادية جديدة تركز على دعم القوات المسلحة.
وكان النظام المصرفي قويا واستمر في العمل دون قيود على وظائفه أثناء الحرب كلها، رغم العمليات البرية والجوية الكاسحة. وقد أوقفنا تدفق رأس المال إلى الخارج، وطبقنا سعر صرف ثابت، واتخذنا العديد من التدابير الضرورية لمكافحة الأزمة. واستمرت عمليات كل البنوك تقريبا – وليس فقط البنوك ذات الأهمية النظامية. وهذه ميزة كبيرة تُحسَب لأوكرانيا. وبفضل ذلك، يوجد دعم للتمويل والمدفوعات في الاقتصاد الذي يواصل العمل بكامل طاقته. ولدينا دخل من الضرائب، كما أننا نؤدي مدفوعات الضمان الاجتماعي، ونحصل على مساعدات دولية، ويمكننا جمع مليارات من عملتنا المحلية (الهريفنيا) لدعم القوات المسلحة.
وقد أبدى الأوكرانيون قدرة لا مثيل لها على الصمود أمام العدو، وكذلك في التكيف مع بيئة جديدة.
لقد اضطلعت بمنصب محافظ البنك المركزي لمدة 10 أسابيع. فما هي التحديات التي واجهتك في تولي هذه المهمة وسط حرب دائرة، وكيف حافظت على عمل القطاعين المصرفي والمالي؟
منذ شهر أكتوبر، تخضع أوكرانيا لحالة من الترويع المكثف في قطاع الطاقة. فقد شهدت تسع موجات من الضربات الصاروخية دمرت بنيتنا التحتية الحيوية – المنشآت الرئيسية التي تتولى توليد وتوزيع الكهرباء والتدفئة والمياه. ويمثل هذا ترويعا مقصودا من خلال إمدادات الطاقة: أن تجعل الأوكرانيين يعانون البرد والظلام. وقد حدثت موجات الهجوم تلك أثناء فترة عملي محافظا للبنك المركزي. وتركز جهودنا على التأكد من استمرار عمل الشبكة المصرفية.
والمشروع الأهم حاليا هو مشروع "باور بانكينغ"، الذي يهدف إلى إنشاء شبكة من فروع البنوك ذات الأهمية النظامية في أوكرانيا. ونحن نتحدث هنا عن أكثر من ألف فرع في 200 مدينة وقرية. ومن المتوقع أن تعمل هذه الفروع باعتبارها شبكة واحدة. ونعمل على تطوير حلول تشغيلية لدعم هذه الشبكة، حتى في ظروف انقطاع الكهرباء، بحيث يتوفر لها دعم احتياطي من الكهرباء والربط الشبكي والسيولة. ولم يحدث قط أن تم تنفيذ مشروع مشابه في أي مكان في العالم.
وفي الوقت نفسه، أنشأت أوكرانيا محطات خاصة يمكن للأوكرانيين الذهاب إليها في حالة انقطاع الكهرباء، لشحن هواتفهم ولأغراض التدفئة والحصول على وجبات ساخنة. وسنوفر أنظمة مصرفية، بما في ذلك أجهزة الصراف الآلي، في هذه المحطات التي تُنشأ في المباني الحكومية وفي ملاجئ خاصة. ونعمل مع شبكة كبيرة من المتاجر ومحطات الوقود للتأكد من إمكانية حصول مواطني أوكرانيا على النقود عند احتياجهم إليها.
والأولوية التالية ستتمثل في إجراء تقييم للبنوك في أوكرانيا من خلال العمليات التشخيصية واختبار تحمل الضغوط. وقد دخل النظام المصرفي الحرب وهو في حالة جيدة جدا نتيجة للإصلاحات التي أُجريت بمساعدة فنية من صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات الدولية. وإذ يستمر تعافى الاقتصاد والنظام المصرفي في أوكرانيا، أعتقد أنه من المهم مراجعة القيود التي فُرِضت أثناء فترة الأزمة. والآن، يعمل النظام المصرفي الأوكراني مع بعض القيود الإدارية، كتلك المفروضة على تدفقات رأس المال. وقد اضطررنا لذلك من أجل ضمان استقرار الاقتصاد الكلي. ومع تعافي الاقتصاد، سنراجع كل هذه العمليات ونعود إلى آليات السوق.
اختتمت أوكرانيا وصندوق النقد الدولي برنامجا يتابعه خبراء الصندوق بمشاركة المجلس التنفيذي. فكيف تتوقع أن يعود هذا البرنامج بالنفع على أوكرانيا؟
برنامج المتابعة هذا يمثل خطوة مهمة تتيح لأوكرانيا البرهنة على تطلعها للإصلاحات واستعدادها للقيام بها، بغض النظر عن الحرب. وستكون هذه فرصة أيضا لتنسيق سياسة المالية العامة والسياسة النقدية وغيرهما من السياسات، وتيسير التعاملات بين البنك المركزي الأوكراني باعتباره المؤسسة المنوطة بضمان الاستقرار السعري والمالي، ووزارة المالية المكلفة بالحصول على التمويل اللازم للحرب.
وتدرك أوكرانيا مدى أهمية استخدام كل إمكانات سوق الدين المحلي وتحقيق المهمة الاستراتيجية الحيوية المتمثلة في تمويل ميزانية السنة المالية 2023. فعلينا أن نمول ميزانية ضخمة لا تقل عن 38 مليار دولار من خلال أموال خارجية. وقد نسقنا مع وزارة المالية واتفقنا ألا يتم تمويل عجز السنة القادمة من البنك المركزي، لأن هذا من شأنه أن يخلق مخاطر وتحديات إضافية على استقرار الاقتصاد الكلي. ورغم أننا بحاجة إلى تمويل غير مسبوق، فإن حكومة أوكرانيا ووزارة ماليتها وبنكها المركزي يخططون لتمويل الميزانية من خلال التعاون مع تحالف من المانحين وسوق الدين المحلي وبمساعدة من الصندوق.
ونعتقد أن البرنامج الذي يتابعه خبراء الصندوق سيكون أحد العناصر الأساسية التي ستسمح لأوكرانيا بجذب التمويل من تحالف الشركاء الدوليين. فهذه الأطراف تنتظر ضوءا أخضر من الصندوق. وفي الوقت ذاته، نأمل أن تكون هذه أول خطوة نحو برنامج تعول أوكرانيا عليه في الربيع القادم يتيح الاستفادة من الشرائح الائتمانية العليا.
ونحن ممتنون لفريق الصندوق على جهوده المكثفة وعمله المهني أثناء الفترة العصيبة التي مررنا بها في الشهرين الماضيين. فقد كان التواصل بيننا 24 ساعة يوميا. وعقد الفريقان مؤتمرات عديدة صباحا ومساءً. واختتمنا اتفاقنا أثناء هجمة صاروخية. وهذا الأمر أضاف مغزى لكل كلمة قيلت وكل قرار تم اتخاذه.
منذ بضع سنوات بدأت تفقد حاسة السمع وأصبحت منذ ذلك الحين مناصرا لحقوق فاقدي السمع في أوكرانيا. هل تمكنت من تحويل فقدان السمع إلى ميزة؟
فقدان أي قدرة من القدرات لا يمكن أن يعتبر ميزة، ولكنه في الوقت نفسه يمكن أن يفتح الباب أمام أبعاد أخرى في شخصية فاقدها. وفي حالتي، أعتقد أنها سمحت لي بزيادة التركيز والانتباه. فأنا لا أسمع الضوضاء الخارجية أو المحيطة – لا شيء يشتت انتباهي حرفيا أو مجازيا.
والبنوك المركزية لديها مفهوم الصمت النقدي. والبنك وكل العاملين فيه صامتون مع الأطراف الخارجية في الأسبوع السابق على اجتماع لجنة صنع قرارات السياسة النقدية لكي يستمع كل منهم إلى الآخر بعناية، ولكي يركز على القضايا الحيوية، وعلى ألا يرتكب أخطاء في القرارات الرئيسية. وبالتالي، ففي حالتي، غياب هذه الضوضاء يسمح لي بتطبيق قاعدة الصمت النقدي عند الضرورة والتركيز على القضية الأهم.