5 min (1403 words) Read

زيادة الإنفاق على البحوث والتطوير لا تزيد بالضرورة الإنتاجية في الولايات المتحدة لأن عمالقة الصناعة يركزون على حماية نفوذهم

 

لطالما افترضنا أن المزيد من الاستثمار في البحوث والتطوير وسيلة مضمونة لتعزيز الابتكار، وزيادة الإنتاجية، وتحفيز توفير فرص عمل وتحقيق نمو اقتصادي. بيد أنه على الرغم من توسع الولايات المتحدة الهائل في الإنفاق على البحوث والتطوير على مدى العقود الأربعة المنصرمة، فإن ما حدث بالفعل كان العكس. فقد تباطأت حركة الابتكار، ومكاسب الإنتاجية، والتوسع الاقتصادي. فأين كان الخطأ؟

توضح البيانات الواقعية أن تشجيع الابتكار يتطلب الانتباه إلى أمور أكثر دقة تتجاوز مجرد إغداق المال عليه. وقد تمكنت المؤسسات العملاقة من بسط هيمنتها على أجزاء كبيرة من الاقتصاد الأمريكي، مزاحمة بذلك منشآت الأعمال والشركات البادئة الأصغر حجما والأكثر ابتكارا. ووفقا لما ورد في بحث أُجري مؤخرا، فإنه على مستوى القطاعات المختلفة، تجعل أكبر الكيانات الأولوية للتحركات الاستراتيجية للدفاع عن منشآت أعمالها بدلا من السعي لابتكار حقيقي، ونتيجة لذلك، يفقد الاقتصاد فرص تحقيق نمو محتمل.

وتوضح هذه الاستنتاجات أنه آن الأوان لإعادة التفكير في المنهج الأمريكي وتوجيه تركيزه على نحو أفضل لضمان تحقيق الابتكار والنمو الاقتصادي. ويتعين على صناع السياسات تشجيع البحوث والتطوير، وأيضا توزيع الموارد على نحو أكثر فعالية. وتُظهر نظرة على مدى التغير الذي طرأ على الابتكار في الولايات المتحدة على مدى العقود القليلة الماضية الطريقة التي يمكنهم بها القيام بذلك.

سلاح ذو حدين

في ثمانينات القرن الماضي، شكل مجموع الاستثمارات في البحوث والتطوير في الولايات المتحدة 2,2% من إجمالي الناتج المحلي. ووفق بيانات مؤسسة العلوم الوطنية، يبلغ هذا الرقم اليوم 3,4% (الرسم البياني 1). وزاد الإنفاق الخاص من منشآت الأعمال على البحوث والتطوير بأكثر من الضعف، حيث ارتفع من 1,1% إلى 2,5% من إجمالي الناتج المحلي.

المبتكرين إلى تغيير وظائفهم والانضمام إلى شركات أكبر وأكثر استقرارا

واستنادا إلى النماذج الاقتصادية التقليدية، كان ينبغي لذلك النوع من الزيادة في الإنفاق على البحوث والتطوير أن يؤدي إلى تسارع النمو الاقتصادي لا إلى التباطؤ الاقتصادي الذي حدث بالفعل. وكان متوسط نمو الإنتاجية بين عامي 1960 و1985 قد بلغ 1,3%. وعلى مدى الثلاثة عقود ونصف العقد التالية، تراجعت مكاسب الإنتاجية إلى ما دون ذلك المتوسط، باستثناء زيادة لم تستمر طويلا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولا يزال النمو السنوي يتراجع بصفة عامة.

ولفهم السبب الذي جعل التحليل التقليدي يخطئ الهدف إلى هذا الحد، يتعين علينا الابتعاد عن البيانات الإجمالية وفحص هيكل الإنفاق على البحوث والتطوير وتوزيعه في الولايات المتحدة باستخدام البيانات الجزئية عالية الجودة عن منشآت الأعمال، والمبتكرين، والابتكارات.

في هذا الصدد، أجريتُ مع ناثان غولدشلاغ من مكتب التعداد الأمريكي دراسات مكثفة لفهم العوامل التي تقف وراء مفارقة الإنتاجية. وخلصنا إلى وجود تحول كبير في مشهد الابتكار في الولايات المتحدة. فعلى مدى العقدين الماضيين، زادت نسبة السكان المشاركين في إنتاج براءات اختراع بمقدار الضِعف تقريبا، في حين تراجع نمو الإنتاجية بمقدار النصف.

وقد يكمن تفسير ذلك الأمر في كيفية توزيع الإنفاق على البحوث والتطوير. ففي بحث سابق، توصلت مع ويليام كير من جامعة هارفارد إلى أن منشآت الأعمال الصغيرة أكثر ابتكارا بالنسبة لحجمها، وهو ما يوضح أنها تستخدم الموارد المخصصة للبحوث والتطوير على نحو أكثر كفاءة. وفي ظل نمو الشركات وهيمنتها على أسواقها، فإنها غالبا ما تحول تركيزها من الابتكار إلى حماية مركزها السوقي.

وفي دراسة أحدث، أوضحتُ أنا وسالومي باسلاندز وفرانشيسكا لوتي، باستخدام بيانات من إيطاليا، أن المؤسسات الأكبر عادة ما تكون أقل ابتكارا، وتنخرط بدلا من ذلك في أنشطة تحد من المنافسة. ويتمثل أحد الأنشطة من هذا النوع في توظيف ساسة محليين. ومع ارتقاء منشآت الأعمال في الترتيب بين الكيانات العشرين الأكبر في صناعتها، فإنها تقوم بتوظيف مزيد من الساسة، في حين يتراجع إنتاجها من براءات الاختراع. ويسلط هذا الأمر الضوء على ما نسميه مفارقة القيادة، حيث تضخ شركات رائدة موارد من أجل الحفاظ على هيمنتها بدلا من تعزيز الابتكار.

وربما يمثل هذا التحول في التركيز بين منشآت الأعمال الكبيرة عاملا محوريا في تباطؤ الإنتاجية في الولايات المتحدة. ولأن الكيانات المهيمنة تعطي للتحركات الاستراتيجية أولوية على الابتكار الحقيقي، فمن شبه المؤكد أن الاقتصاد ككل يخسر فرص النمو المحتمل. وفهم هذه الديناميكية أمر بالغ الأهمية لصناع السياسات الذين يسعون لتشجيع الابتكار الحقيقي ودفع النمو الاقتصادي بشكل فعال.

وعلى مدى العقدين الماضيين، حدثت عملية إعادة توزيع كبيرة لموارد الابتكار نحو شركات كبيرة مستقرة، وهذا ما وثَّقتُه أنا وغولدشلاغ في عام 2022. ففي بداية هذا القرن، عمل حوالي 48% من المبتكرين الأمريكيين لدى هذه الشركات الكبيرة الأقدم - تلك الشركات التي تأسست منذ أكثر من 20 عاما ويعمل فيها أكثر من ألف موظف. وبحلول عام 2015، ارتفعت تلك النسبة إلى 58%، في دلالة على تحول كبير في مكان تركز المواهب الابتكارية في البلاد.

وللوهلة الأولى، قد لا يبدو أن هذا التحول يمثل إشكالية. وعلى أي حال، قد يكون لدى الشركات الكبيرة الموارد اللازمة لدعم التوسع في البحوث والتطوير. إلا أن البحث يظهر اتجاها مثيرا للقلق، ألا وهو أن المبتكرين الذين ينتقلون إلى شركات كبيرة يصبحون أقل ابتكارا مقارنة بهؤلاء الذين ينتقلون إلى شركات صغيرة.

التوظيف الذي يخنق الابتكار

هناك ممارسة معينة حددناها في بحثنا ألا وهي التوظيف الذي يخنق الابتكار. ويحدث هذا الأمر عندما تقوم مؤسسات كبيرة مستقرة باستقطاب موظفين رئيسيين من شركات منافسة أحدث نشأة، غالبا عن طريق عرض رواتب أعلى. إلا أنه بدلا من الاستعانة بهؤلاء الموظفين الجدد لدفع الابتكار قدما، قد تسند إليهم هذه المؤسسات الكبيرة أدوارا لا تحقق استفادة كاملة من مهاراتهم. ونتيجة لذلك، يصبح هؤلاء الأفراد أقل ابتكارا، وتعاني القدرة الابتكارية الكلية للاقتصاد.

وبعد عام 2000، حدثت زيادة كبيرة في علاوات الأجور التي كانت الشركات المستقرة تقدمها، مقارنة بالرواتب التي كانت منشآت الأعمال الأحدث نشأة تدفعها. واتسع فرق الأجور بنسبة 20%، وهو ما دفع كثيرا من المبتكرين إلى تغيير وظائفهم والانضمام إلى شركات أكبر وأكثر استقرارا (راجع الرسم البياني 2). ورغم ذلك، انخفضت قدرة هؤلاء الأشخاص على الابتكار بنسبة 6% مقارنة بقدرة نظرائهم الذين انضموا إلى شركات أحدث نشأة.

الإنفاق الخاص من منشآت الأعمال على البحوث والتطوير بأكثر من الضعف، حيث ارتفع من 1,1% إلى 2,5% من إجمالي الناتج المحلي.

ولعل أحد التفسيرات لهذه الممارسة يتمثل في أنها تكون بمنزلة خطوة استراتيجية تتخذها المؤسسات الكبيرة لتحييد التهديدات التنافسية المحتملة. فباستقطاب أفضل المواهب من المنافسين، لا تُضعف هذه المؤسسات منافسيها فحسب، بل تحُول أيضا دون مساهمة هؤلاء الأفراد في ابتكارات إحلالية محتملة في مكان آخر. وربما تحقق هذه الاستراتيجية استفادة على المدى القصير لمنشأة الأعمال التي توظفهم، ولكنها تشكل مخاطر على المدى الطويل للابتكار والنمو الكلي للاقتصاد.

ويشير هذا الأمر إلى أنه على الرغم من قيام الولايات المتحدة بزيادة الإنفاق الكلي على البحوث والتطوير بالنسبة إلى إجمالي الناتج المحلي، لم يؤد تحول المواهب الابتكارية نحو منشآت الأعمال الكبيرة القديمة إلى تحقيق الدفعة المتوقعة في الإنتاجية. إذ غالبا ما تكون أولوية هذه الشركات الصناعية هي الحفاظ على هيمنتها على السوق على حساب توسيع حدود الابتكار. ويعني هذا الموقف الدفاعي أنه على الرغم من توجيه مزيد من الموارد للبحوث والتطوير، فإنها لا تُستخدم بأقصى قدر ممكن من الفعالية في الشركات الأصغر حجما والأكثر مرونة.

وبالتالي، لا يحقق الاقتصاد الأمريكي استفادة من نمو الإنتاجية الذي يحفزه الإنفاق على البحوث والتطوير. ولا يبرز هذا الأمر أهمية مقدار الاستثمار في البحوث والتطوير فحسب، وإنما أيضا أهمية مواضع توزيعه وكيفية هذا التوزيع. ولتحقيق استفادة حقيقية من قوة الابتكار، يتعين أن تتحول السياسات والحوافز إلى تشجيع سلوك أكثر ديناميكية وقدرة على تحمل المخاطر، ولا سيما بين المؤسسات والشركات البادئة الأصغر حجما. ويمكن أن يؤدي هذا الأمر إلى مكاسب الإنتاجية من النوع الذي تحتاجه الولايات المتحدة.

الحوافز المعاكسة

لقد احتدم النقاش حول دور السياسة الصناعية في الولايات المتحدة، مع تأكيد متجدد على الاستراتيجيات الصناعية القوية. ويمكن للتفكير مليا في التجارب السابقة أن يوفر رؤى متعمقة قيِّمة. وقد أجريتُ مع سينا أتيس من الاحتياطي الفيدرالي دراسة لاتجاهات المنافسة في السوق في الولايات المتحدة على مدى العقود العديدة المنصرمة. واكتشفنا أنه منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي، حدثت زيادة كبيرة في تركز السوق وانخفاض في ديناميكية منشآت الأعمال.

وتتسق هذه الفترة مع تطبيق الخصم الضريبي على البحوث والتطوير في عام 1981، وهو أحد مكونات قانون ضرائب التعافي الاقتصادي الشامل الذي طرحه الرئيس رونالد ريغان آنذاك. وتمثل الهدف من الخصم في تشجيع منشآت الأعمال على الاستثمار في البحوث والتطوير. وكانت منيسوتا أول ولاية تعتمد خصما ضريبيا مشابها على البحوث والتطوير على مستوى الولاية في عام 1982، وحذا كثير من الولايات حذوها، متوقعة تعزيز الابتكار والنمو الاقتصادي.

إذن، ما الشركات التي من الأرجح أن تستفيد من هذا الخصم الضريبي على البحوث والتطوير؟ يوضح البحث الذي أجريناه مع غولدشلاغ أنه يُرجَّح إلى حد كبير أن تحقق منشآت الأعمال الكبيرة استفادة من هذا الخصم أكثر من منشآت الأعمال الأصغر حجما. وتعطي السياسات - ربما عن غير قصد - أفضلية للشركات الكبيرة، وهو ما يشجعها على الهيمنة في مجال الإنفاق على البحوث والتطوير.

وعندما نجمع بين هذه الملاحظة وممارسات التوظيف التي تخنق الابتكار والتي تتبعها منشآت الأعمال الكبيرة، يظهر لنا نمط محدد. فهل يمكن ربط السياسات بمزيد من هذه الممارسات؟ يبدو أن الإجابة هي نعم. فالبحث الذي أجريناه يقدم دليلا مباشرا على أن منشآت الأعمال التي تطالب بقوة بالحصول على خصم ضريبي على البحوث والتطوير من الأرجح أن تنخرط في مثل هذه الممارسات. وغالبا ما تعرض هذه المؤسسات رواتب أعلى على المبتكرين، الذين يصبحون أقل ابتكارا بعد انضمامهم إليها. ويوضح هذا الأمر أن دعم الابتكار، وإن كان يهدف إلى تشجيع البحوث والتطوير، قد يؤدي عن غير قصد إلى الحد من الابتكار العام بسبب إيجاد حوافز مختلفة للشركات الرائدة في السوق مقارنة بالمنافسين الأصغر حجما.

وتشير الأدلة إلى أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة توجه مزيدا من الاستثمار إلى البحوث والتطوير، فقد أدى تركز الموارد بين منشآت الأعمال الكبيرة إلى تناقص العائد من حيث نمو الإنتاجية. وتخالف هذه النتيجة افتراض أن مجرد التوسع في الإنفاق على البحوث والتطوير سيؤدى تلقائيا إلى تحقيق نمو اقتصادي. وبدلا من ذلك، فإنها تسلط الضوء على الحاجة إلى منهج أكثر دقة تجاه السياسة الصناعية - منهج لا يحفز البحوث والتطوير فحسب، بل يشجع أيضا على إعادة توزيع الموارد بصورة فعالة.

ومن أجل تعزيز اقتصاد أكثر ديناميكية وابتكارا، يتعين على الولايات المتحدة تصميم سياسات لا تدعم الشركات الكبيرة الأقدم فحسب، بل تساند أيضا منشآت الأعمال والشركات البادئة الأصغر التي غالبا ما تتمتع بقدرة أكبر على الابتكارات الإحلالية. ويمكن أن يشمل هذا الأمر خصومات ضريبية موجهة لمنشآت الأعمال الصغيرة، ومنح للابتكارات في مراحلها المبكرة، وسياسات تشجع المنافسة وتحد من معوقات دخول كيانات جديدة.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة زادت الإنفاق على البحوث والتطوير بشكل كبير على مدى فترة طويلة، فإن الفوائد لم توزَّع بصورة متساوية، وهو ما ساهم في تباطؤ نمو الإنتاجية. ويتعين على صناع السياسات إعادة النظر في استخدام السياسات الصناعية التقليدية، التي ربما تكون قد أدت إلى الحد من المنافسة وتباطؤ مكاسب الإنتاجية. والأمر لا يتعلق بالمبلغ الإجمالي الذي يُنفق على البحوث والتطوير فحسب، ولكن أيضا بكيفية توزيعه. وبإنشاء منظومة ابتكار شاملة، يمكن للولايات المتحدة تحقيق استفادة أفضل من مواهبها الابتكارية، تعزيزا للنمو الاقتصادي وضمانا لتحقيق الرخاء في المستقبل.

أوفوك أكسيجيت أستاذ كرسي أرنولد هاربرغر للاقتصاد في جامعة شيكاغو، وباحث مشارك في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، وباحث منتسب في مركز بحوث السياسات الاقتصادية.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.

المراجع:

Akcigit, Ufuk, and Sina Ates. 2021 “Ten Facts on Declining Business Dynamism and Lessons from Endogenous Growth Theory.” American Economic Journal: Macroeconomics 13 (1): 257–98.

Akcigit, Ufuk, Salome Baslandze, and Francesca Lotti. 2023. “Connecting to Power: Political Connections, Innovation, and Firm Dynamics.” Econometrica 91 (2): 529–64.

Akcigit, Ufuk, and Nathan Goldschlag. 2022. “Where Have All the ‘Creative Talents’ Gone? Employment Dynamics of US Inventors.” NBER Working Paper 31085, National Bureau of Economic Research, Cambridge, MA.

Akcigit, Ufuk, and Nathan Goldschlag. 2024. “Understanding the Innovation Puzzle: Firm Size, Inventors, and Industrial Policy.” University of Chicago Working Paper, Chicago, IL.

Akcigit, Ufuk, and William Kerr. 2018. “Growth through Heterogeneous Innovations.” Journal of Political Economy 126 (4): 1374–443.

The Census Bureau has ensured appropriate use of confidential data and reviewed for compliance with disclosure-avoidance rules (Project 7083300: CBDRB-FY24-CES007-01).