5 min (1403 words) Read

الإصلاحات المعنية بمعالجة سوء توزيع الموارد يمكن أن تعطي دفعة للإنتاجية بما يكفي لإنعاش النمو العالمي الذي يشهد حالة ركود

 

لا يزال الاقتصاد العالمي يكافح لاستعادة مكانته منذ الأزمة المالية العالمية في 2008-2009. ولا يزال خفض التنبؤات للنمو على المدى المتوسط مستمرا. وقد شهدت الاقتصادات المتقدمة تراجعا حادا في النمو منذ بداية العِقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وواجهت الأسواق الصاعدة تحديات مشابهة في أعقاب الأزمة المالية.

وتوضح دراستنا الأخيرة أنه ما لم تحدث تدخلات على مستوى السياسات في الوقت المناسب أو إنجازات كبيرة في مجال التكنولوجيا واعتمادها، سيظل النمو العالمي ثابتا عند مستوى لا يتجاوز 2,8% بحلول نهاية العِقد. وهذا انخفاض كبير بمقدار نقطة مئوية عن مستويات ما قبل جائحة كوفيد-19.

إلا أن هذه النتيجة ليست قَدَرا محتوما. ففي الوقت الراهن، تتصدر الولايات المتحدة، من بين البلدان التي تشملها العينة التي استخدمناها، العالم من حيث كفاءة توزيع الموارد، وهو مقياس لمدى جودة توزيع موارد الاقتصاد على أكثر استخداماته إنتاجية.

وتشير حساباتنا إلى أنه إذا تمكنت البلدان الأقل كفاءة من تقليص الفجوة بينها وبين الولايات المتحدة بنسبة 15% فقط، فستتمكن من إعطاء دفعة للإنتاجية وتحفيز الاستثمار، مما يضيف نحو 1,2 نقطة مئوية إلى النمو العالمي السنوي. وللإصلاحات الهيكلية التي تعالج الحواجز التنظيمية، وجمود سوق العمل، وإمكانية الحصول على التمويل أهميتها في تحقيق هذا الأمر.

والحقيقة أن منافع النمو الاقتصادي لا تخفى على أحد. فالنمو يقود إلى تحسين مستويات المعيشة، وتحقيق مزيد من الإيرادات الضريبية من أجل الخدمات العامة، وزيادة الاستثمار في التكنولوجيات ومنشآت الأعمال الجديدة، بما في ذلك الاستثمار المطلوب لمكافحة تغير المناخ والتحول إلى استخدام الطاقة المتجددة. وهذا ما يفسر الأهمية البالغة لزيادة الإنتاجية.

وفي السنوات الأخيرة، شهد نمو الإنتاجية – أي الزيادات في الناتج التي لا تُعزى إلى النمو في مدخلات مثل العمالة ورأس المال - تباطؤا كبيرا، بما يشكل أكثر من نصف التراجع في النمو العالمي. ففي الاقتصادات المتقدمة، تراجع النمو السنوي للإنتاجية بشدة من 1,4% خلال الفترة 1995-2000 إلى ما لا يتجاوز 0,4% في أعقاب الجائحة. وشهدت اقتصادات الأسواق الصاعدة انخفاضا من 2,5% خلال الفترة 2001-2007 إلى 0,8%. ويبدو الوضع أكثر قتامة للبلدان منخفضة الدخل، حيث سجل نمو الإنتاجية هبوطا حادا من 2% خلال الفترة 2001-2007 إلى نحو الصفر في أعقاب الجائحة.

العوامل الدافعة للإنتاجية

زيادة الإنتاجية تعني مزيدا من الناتج من نفس الكم من المدخلات. ويوجد عاملان رئيسيان يدفعان نمو الإنتاجية هما التحسينات داخل الشركات، وكفاءة توزيع الموارد على مستوى الاقتصاد.

وتتحقق مكاسب الإنتاجية داخل الشركات عن طريق استخدام تكنولوجيا أفضل، وتحسين ممارسات الإدارة، والعمليات الابتكارية. فالشركات التي تعتمد أحدث التكنولوجيات وتجذب أفضل المواهب يمكنها زيادة الإنتاجية إلى حد كبير. فعلى سبيل المثال، يمكن لشركة تكنولوجيا تستثمر في أحدث مجالات البحوث والتطوير ابتكار منتجات جديدة أو تحسين منتجات موجودة بالفعل، ومن ثم توسيع حصتها السوقية وزيادة قدرتها التنافسية.

في الواقع، تتمثل المشكلة في أن عائد الاستثمار في البحوث والتطوير آخذ في التناقص. فعلى سبيل المثال، ثمة حاجة في صناعة أشباه الموصلات إلى مزيد من الباحثين من أجل مضاعفة كثافة إنتاج الرقائق الإلكترونية. ويتسع نطاق هذا الاتجاه أيضا ليشمل قطاعات مختلفة، من بينها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حيث بلغت المكاسب السريعة مرحلة الثبات بشكل كبير منذ بداية العِقد الأول من القرن الحالي. ولهذا، يتعين النظر في استخدام مصادر أخرى لزيادة الإنتاجية للحفاظ على النمو الاقتصادي.

ويقودنا هذا الأمر إلى العنصر الرئيسي الثاني في دفع نمو الإنتاجية، ألا وهو كفاءة توزيع الموارد. وتتعلق كفاءة توزيع الموارد على نطاق الاقتصاد بأكمله بمدى جودة توزيع موارد الاقتصاد على مختلف منشآت الأعمال من أجل أكثر استخداماتها إنتاجية. ولنتخيل الاقتصاد كمزرعة كبيرة. فإذا استُخدمت أجود الأراضي لزراعة أعلى المحاصيل قيمة، فستحقق المزرعة إنتاجية أعلى بشكل عام. وعلى نفس المنوال، إذا تدفقت موارد الاقتصاد إلى أكثر الشركات ابتكارا وأعلاها كفاءة، فإن بمقدورها أن تنمو وأن تدفع التقدم الاقتصادي قدما. وتضمن هذه العملية ازدهار أفضل منشآت الأعمال، في حين تخرج المنشآت الأقل كفاءة من السوق.

معالجة سوء توزيع الموارد

من المؤسف أن سوء توزيع رأس المال والعمالة على مستوى الشركات داخل القطاعات المختلفة قد زاد بالفعل. ولا يزال سوء توزيع الموارد هذا يؤدي إلى تراجع نمو الإنتاجية بمقدار 0,6 نقطة مئوية في المتوسط سنويا. ولولا هذه الزيادة في سوء توزيع الموارد، لكان نمو الإنتاجية أعلى بنسبة 50%.

وتُعزى هذه الزيادة بصفة أساسية إلى عدم تكافؤ نمو الإنتاجية بين الشركات، الذي يعوقه الاحتكاك الاقتصادي في كثير من البلدان مما يحُول دون إعادة توزيع الموارد بكفاءة. والاحتكاكات الهيكلية، مثل الحواجز التنظيمية، وجمود أسواق العمل، والقيود على التمويل، وعدم الانفتاح التجاري، عادة ما ترتبط بمستويات أعلى من سوء توزيع الموارد.

وتخلص الدراسة التي أجريناها إلى أن ثلثي سوء توزيع الموارد المُشاهد يُعزى إلى قضايا هيكلية مستمرة. ويوضح هذا الأمر أن التدخلات الموجهة على مستوى السياسات، التي تعالج أوجه عدم الكفاءة هذه، يمكن أن تدفع الإنتاجية وتزيد النمو بشكل كبير (راجع الرسم البياني 1).

ثلثي سوء توزيع الموارد المُشاهد يُعزى إلى قضايا هيكلية مستمرة

وتتمثل إحدى السياسات التي تدعم تحقيق هذا الهدف في الحد من حواجز الدخول إلى الأسواق وزيادة المنافسة. على سبيل المثال، شرعت الهند في عام 1991 في تنفيذ إصلاحات اقتصادية واسعة النطاق تضمنت إلغاء القيود التنظيمية على قطاعات الاقتصاد المهمة. وأتاح إلغاء نظام التصاريح الصناعية الإلزامية، الذي كان يُعرف أيضا باسم "نظام التصاريح الإلزاميةLicense Raj "، مزيدا من المشاركة والمنافسة من القطاع الخاص. وأدى ذلك الإصلاح إلى الحد من حواجز الدخول وأوجه قصور الطاقة الإنتاجية، مما أتاح توزيع الموارد على نحو أكثر كفاءة.

ويتمثل منهج آخر فعال في تحرير الأسواق المالية، وهو ما يمكِّن منشآت الأعمال من الحصول على التمويل الذي تحتاجه لتحقيق النمو والابتكار. ويتيح هذا الأمر للشركات ذات الإمكانات الإنتاجية العالية الحصول على رأس المال الضروري للتوسع، بدلا من أن تعوق القيود المالية عملها.

وعلى القدر نفسه من الأهمية يأتي الحد من أوجه جمود سوق العمل لتشجيع وجود قوة عاملة تتسم بالديناميكية ولديها القدرة على التكيف. ففي البرازيل، على سبيل المثال، أدت صرامة القواعد المنظمة لسوق العمل في الماضي إلى زيادة التكاليف على كاهل أصحاب العمل في القطاع الرسمي، وهو ما نتج عنه نسبة كبيرة من التوظيف في القطاع غير الرسمي الأقل إنتاجية. وبتيسير انتقال العمالة إلى الأماكن التي هي في أمس الحاجة إليهم، يمكن للبلدان زيادة الاتساق بين عرض العمالة والطلب عليها، وبالتالي تعزيز الإنتاجية الكلية.

ومعالجة الحواجز المؤسسية الأخرى التي تقف حجر عثرة أمام كفاءة توزيع الموارد ذات أهمية بالغة للنمو على المدى الطويل. ويجب أيضا التصدي لمسائل مثل الفساد وضعف حقوق الملكية عن طريق حوكمة وإصلاحات مؤسسية فعالة. ويمكن لتحسين الإطار التنظيمي وضمان شفافية ممارسات السوق وعدالتها خلق مشهد اقتصادي أكثر ديناميكية وإنتاجية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن التكنولوجيات الناشئة، مثل الذكاء الاصطناعي والرقائق الإلكترونية لأجهزة الكمبيوتر فائقة الأداء، والتكنولوجيا الحيوية، والتكنولوجيات الخضراء، لديها الإمكانية لزيادة الإنتاجية وتعزيز النمو الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي الارتقاء بسلاسل الإمداد إلى المستوى الأمثل، وتقليل تكاليف التشغيل، وتحسين مستوى خدمة العملاء، التي تساهم جميعها في تحقيق إنتاجية أعلى. وفي مجال الرعاية الصحية، تُحدث تقنيات التشخيص باستخدام الذكاء الاصطناعي والطب المشخصن ثورة في رعاية المرضى، مما يجعلها أكثر كفاءة وفعالية. بالمثل، في الصناعات التحويلية، يزيد التشغيل الآلي المدعوم بالذكاء الاصطناعي سرعة الإنتاج ويقلل الأخطاء، وهو ما يؤدي إلى وفورات كبيرة في التكلفة وقدر كبير من مكاسب الإنتاجية.

وينبغي للحكومات تشجيع منظومة للابتكار والاعتماد تدعم الإبداع وتخفض الاحتكاكات في إعادة توزيع موارد البحوث إلى أدنى حد. ولأوجه التقدم التكنولوجي دور محوري في زيادة الإنتاجية لأنها تتيح للشركات العمل بكفاءة أكبر والمنافسة بفعالية في الأسواق العالمية.

تجربة فكرية

إليكم تجربة فكرية بسيطة، ولكنها كاشفة، ماذا لو استطاع كل بلد سد فجوات السياسات بينه وبين أفضل الاقتصادات أداءً من حيث مرونة سوق العمل، وتحرير السوق المالية، وتحرير التجارة، وتنظيم أسواق منتجات معينة؟

وإذا تمكنت بلدان أخرى من تقليص فجوات السياسات بينها وبين الولايات المتحدة بنسبة 15% فقط - وهو هدف طموح ولكنه قابل للتحقيق إذا ما أخذنا تدابير الإصلاح التاريخية في الاعتبار - فإنه يمكن القضاء على العبء الذي يسببه عدم كفاءة توزيع الموارد على نمو الإنتاجية السنوية، وهو ما يعكس مسار التراجع في الإنتاجية ويعزز النمو.

فالاقتصاد العالمي يمر بالفعل بلحظة فارقة. ويتطلب المسار إلى المستقبل عملا حاسما لزيادة الإنتاجية عن طريق تحسين توزيع الموارد واعتماد التكنولوجيا. وتتقارب الدروس التي نستخلصها من التاريخ وكثير من التحليلات عند نفس النقطة، وهي أنه يمكن للتدخلات الفعالة على مستوى السياسات وقف اتجاه النمو الآخذ في التراجع، وعكس مساره. وبخلق بيئات يمكن فيها لأكثر منشآت الأعمال إنتاجية الازدهار، وباستغلال إمكانات التكنولوجيات الناشئة، يمكن للبلدان تهيئة الظروف لحقبة جديدة من الرخاء الاقتصادي.

تحد متعدد الأوجه

البرازيل

تواصل البرازيل، أحد الاقتصادات الصاعدة الرائدة، تقدمها نحو الحد الأقصى لمبتكرات التكنولوجيا العالمية، حيث يزداد اندماجها في الأسواق العالمية وتستمر في مسيرة الإصلاح. وقد زادت إنتاجية العمالة منذ إصلاح سوق العمل في عام 2017، الذي أدى إلى انخفاض عدد المنازعات العمالية المحالة إلى القضاء والتكاليف المرتبطة بها. ومن المتوقع أن يؤدي تنفيذ إصلاح ضريبة القيمة المضافة لعام 2023 إلى تحسين تخصيص الموارد، ولا سيما في قطاع التصنيع، وتعزيز الاستثمار، وزيادة أنشطة القطاع الرسمي، مما يرفع النمو الاقتصادي بنسبة 0,3- 0,5 نقطة مئوية سنويا. ومن المتوقع أن تؤدي زيادة إنتاج الهيدروكربونات إلى رفع النمو على المدى المتوسط. ومن شأن هذا أن يحسّن آفاق ارتفاع الدخل في البرازيل ليقترب من دخل الاقتصادات المتقدمة. وقد يؤدي الاستثمار في فرص النمو الأخضر إلى زيادة تعزيز إمكانات الاقتصاد.

الصين

كان التحول السريع والاندماج في الأسواق العالمية قاطرة لعقود من الأداء الاقتصادي منقطع النظير. لكن النمو تباطأ في السنوات الأخيرة، ومن المتوقع أن يزداد تباطؤا في ظل شيخوخة السكان وتراجع نمو الإنتاجية. وقد انخفضت كفاءة توزيع رأس المال والعمالة بين الشركات في قطاع الخدمات، الذي يشكل أكثر من نصف القيمة المضافة. وتسيطر الشركات الخدمية الأقل إنتاجية على حصة سوقية كبيرة للغاية، في حين تبقى منشآت الأعمال ذات الإنتاجية العالية صغيرة جدا لأنها تعاني في محاولة جذب رؤوس الأموال والعمالة اللازمين للنمو. وينبغي للصين أن تعطي أولوية للإصلاحات الرامية إلى تحسين كفاءة التوزيع. ويمكن لإصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، وإزالة الحواجز الحمائية، وزيادة الانفتاح على التجارة الدولية في الخدمات أن تعطي دفعة لإمكانات النمو.

منطقة اليورو

تأخر نمو الإنتاجية في أوروبا عن مثيله في الولايات المتحدة منذ تسعينيات القرن الماضي، ولم تتمكن الشركات الأوروبية من مجاراة المنافسين عبر المحيط الأطلسي في ابتكاراتهم الناجحة. وبدون سوق متكاملة حقا للسلع والخدمات والعمالة ورأس المال، لا تستطيع منشآت الأعمال استكشاف فرص وفورات الحجم أو تحقيق النمو بقدر ما يفعل النظراء في الولايات المتحدة. وينطبق هذا بشكل خاص على الشركات البادئة ذات الابتكارات الثورية. وتؤدي الأطر غير الكفؤة للتعامل مع حالات الإعسار إلى إبطاء خروج الشركات غير المنتجة، وإعاقة تخصيص الموارد، والحد من الضغط التنافسي، بما في ذلك تبني التكنولوجيات الجديدة. وتؤدي شيخوخة السكان، وعدم توافق المهارات مع متطلبات سوق العمل، وغير ذلك من التحديات العمالية إلى تثبيط عملية تغير الموظفين اللازمة لدعم نمو الإنتاجية. ومن شأن وجود سوق موحدة أقوى أن يحسِّن المنافسة ورفع الكفاءة التوزيعية.

اليابان

تعافى نمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج في اليابان خلال العشرية الأولى من الألفية الجديدة بعد عقود من التباطؤ في ظل سعي الشركات للتغلب على القيود التي تفرضها شيخوخة السكان وضعف المعروض في أسواق العمل، عن طريق الاستثمار في البرمجيات والتحول الرقمي. بيد أن ذلك التعافي لم يدم طويلا، وسرعان ما عاد نمو الإنتاجية إلى التباطؤ. ورغم كون اليابان من بلدان العالم الأكثر إنفاقا على البحث والتطوير كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، فإنها لم تحقق إنجازات تكنولوجية كافية لإعادة تلك الإنتاجية إلى مستوياتها التاريخية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن كفاءة التوزيع تعوقها فجوة متنامية بين الشركات مرتفعة الإنتاجية والشركات منخفضة الإنتاجية؛ إذ تظل الشركات ضعيفة الأداء تعمل لسنوات قبل أن تغلق أبوابها وتخرج من الأسواق في نهاية المطاف، مما يفرض عبئا على نمو الإنتاجية على مستوى الاقتصاد.

نان لي هي نائب رئيس قسم في إدارة البحوث بصندوق النقد الدولي.
ضياء نور الدين اقتصادي في إدارة البحوث بصندوق النقد الدولي.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.