5 min (1403 words) Read

تشكُك المرء في آرائه مع تطور الظروف يمكن أن يكون أمرا جيدا

لقد حقق علم الاقتصاد الكثير؛ وهناك مجموعات واسعة من المفاهيم النظرية غير الواضحة في كثير من الأحيان ومن الأدلة التجريبية الدقيقة والمقنعة في بعض الأحيان. وتعرف هذه المهنة وتفهم أشياء كثيرة. ومع ذلك، فإننا نمر اليوم بحالة من التشوش إلى حد ما. فلم نتنبأ نحن كمجموعة بالأزمة المالية، والأسوأ من ذلك أننا ربما نكون قد ساهمنا في حدوثها من خلال الإيمان مفرط الطموح بكفاءة الأسواق، وخاصة الأسواق المالية التي كان فهمُنا لبنيتها وانعكاساتها أقل مما كنا نتصور. وقد شهدت الأحداث الاقتصادية الكلية الأخيرة، والتي كانت غير عادية على الإطلاق، خبراء يتنازعون مشيرين إلى أن نقطة الاتفاق الرئيسية بينهم هي عدم صحة آراء الآخرين. ومن المعروف أن الفائزين بجائزة نوبل في الاقتصاد ينتقدون عمل بعضهم بعضا في الاحتفالات التي تقام في ستوكهولم، وهو ما يثير ذعر الفائزين بالجائزة في مجال العلوم الذين يعتقدون أن الجوائز تُمنح عند التوصل إلى نتائج صحيحة.

ومثل الكثيرين غيري، وجدت نفسي أغير رأيي في الفترة الأخيرة، وهي عملية محبطة بالنسبة لشخص كان اقتصاديا ممارسا لأكثر من نصف قرن من الزمان. وسوف أتطرق إلى بعض المواضيع الجوهرية، ولكنني سأبدأ ببعض الإخفاقات العامة. فأنا لا أُدرج مزاعم الفساد التي أصبحت شائعة في بعض المناقشات. ومع ذلك فإن الاقتصاديين، الذين حققوا ازدهارا هائلا على مدار نصف القرن الماضي، ربما يُتهمون عن حق بأن لديهم مصلحة وطيدة في الرأسمالية بالصورة التي تعمل بها حاليا. وينبغي أن أقول أيضا إنني أكتب عن فكر سائد (وربما غامض)، وأن هناك العديد من الاقتصاديين الذين لا ينتمون إلى الفكر السائد.

  • القوى: إن تركيزنا على فضائل الأسواق الحرة التنافسية والتغير التقني ذي المنشأ الخارجي من الممكن أن يصرف انتباهنا عن أهمية القوى في تحديد الأسعار والأجور، وفي اختيار اتجاه التغيير التقني، وفي التأثير على الأمور السياسية لتغيير قواعد اللعبة. وبدون تحليل القوى، من الصعب أن نفهم عدم المساواة أو أي شيء آخر في الرأسمالية الحديثة.
  • الفلسفة والأخلاقيات: على نقيض الاقتصاديين من آدم سميث وكارل ماركس إلى جون ماينارد كينز وفريدريك هايك، وحتى ميلتون فريدمان، لقد توقفنا إلى حد كبير عن التفكير في الأخلاقيات وفيما يشكل الرفاهية البشرية. نحن تكنوقراطيون نركز على الكفاءة. ونحصل على تدريب قليل على غايات الاقتصاد، أو على معنى الرفاهية - فقد اختفى اقتصاد الرفاهية منذ فترة طويلة من المناهج الدراسية - أو على ما يقوله الفلاسفة عن المساواة. وعندما نتعرض لضغوط، فإننا عادة ما نلجأ إلى نظرية النفعية القائمة على الدخل. وغالبا ما نساوي بين الرفاهية والمال أو الاستهلاك، مما يؤدي إلى فقدان الكثير من الأمور التي تهم الناس. وفي الفكر الاقتصادي الحالي، يحظى الأفراد بأهمية أكبر بكثير من العلاقات بين الناس في الأسر أو في المجتمعات المحلية.
  • الكفاءة مهمة، ولكننا نثمنها على حساب غايات أخرى. ويؤيد كثيرون تعريف ليونيل روبنز للاقتصاد على أنه تخصيص الموارد النادرة بين غايات متنافسة أو التعريف الأقوى الذي يفيد بأن الاقتصاديين ينبغي أن يركزوا على الكفاءة ويتركوا الإنصاف للآخرين، للساسة أو الإداريين. ولكن هؤلاء الآخرين غالبا ما يتغيبوا عن المشهد، ولذا عندما تأتي الكفاءة مع تحيز إعادة التوزيع نحو الأعلى - في كثير من الأحيان، ولكن ليس حتما – فإن توصياتنا لا تصبح أكثر من مجرد رخصة للنهب. وقد كتب كينز أن مشكلة الاقتصاد هي التوفيق بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والحرية الفردية. وقد قمنا بعمل جيد فيما يتعلق بالغاية الأولى، والنزعة التحررية في علم الاقتصاد دائما ما تدعم الغاية الأخيرة، أما العدالة الاجتماعية فتأتي في مرحلة لاحقة. وبعد أن أيد الاقتصاديون اليساريون احترام مدرسة شيكاغو للأسواق - "نحن جميعا من أتباع فريدمان الآن" - أصبحت العدالة الاجتماعية خاضعة للأسواق وتبددت الشواغل إزاء التوزيع بالاهتمام بما هو متوسط، وهو ما يوصف غالبا بشكل يدعو للسخرية بأنه "المصلحة الوطنية".
عندما تقترن الكفاءة بإعادة توزيع الثروة نحو الأعلى، فإن توصياتنا غالبا ما تصبح مجرد رخصة للنهب.
  • الأساليب التجريبية: كانت ثورة المصداقية في الاقتصاد القياسي بمثابة رد فعل مفهوم لتحديد الآليات السببية من خلال التأكيد، وهو ما كان مثيرا للجدل في كثير من الأحيان، ولا يصدق في بعض الأحيان. ولكن الأساليب المعتمدة حاليا، أو التجارب المضبوطة المعشاة، أو الفرق في الفروق، أو تصاميم عدم استمرارية الانحدار، تؤدي إلى تركيز الاهتمام على التأثيرات الموضعية، وبعيدا عن الآليات التي يُحتمل أن تكون مهمة، ولكنها بطيئة المفعول والتي تعمل بفترات تأخر طويلة ومتغيرة. وغالبا ما يقوم المؤرخون، الذين يفهمون مسائل الاقتران والسببية متعددة الأوجه ومتعددة الاتجاهات، بعمل أفضل من الاقتصاديين في تحديد الآليات المهمة المعقولة، والمثيرة للاهتمام، والتي تستحق التفكير فيها، حتى لو لم تكن تلبي المعايير الاستدلالية للاقتصاد التطبيقي المعاصر.
  • التواضع: غالبا ما نكون واثقين جدا من أننا على حق. ويتمتع الاقتصاد بأدوات قوية قادرة على تقديم إجابات واضحة، ولكنها تقتضي وضع افتراضات قد لا تصلح في كل الظروف. ومن الجيد أن ندرك أن هناك دائما تفسيرات متنافسة وأن نتعلم كيفية الاختيار من بينها.
إعادة النظر

مثل أغلب أفراد الفئة العمرية التي أنتمي إليها، كنت لفترة طويلة أعتبر النقابات مصدر إزعاج يتدخل في الكفاءة الاقتصادية (والكفاءة الشخصية في كثير من الأحيان) ورحبت بزوالها البطيء. ولكن اليوم، تمتلك الشركات الكبرى سلطة أكبر مما ينبغي فيما يتعلق بظروف العمل والأجور والقرارات في واشنطن، حيث لا تملك النقابات صوتا مقارنة بجماعات الضغط لصالح الشركات. وكانت النقابات في يوم من الأيام ترفع الأجور لأعضائها ولغير الأعضاء، وكانت تشكل جزءا مهما من رأس المال الاجتماعي في كثير من الأماكن، كما جلبت قوة سياسية للعاملين في مكان العمل، وفي الحكومات المحلية، وحكومات الولايات، والحكومات الفيدرالية. ويساهم تراجع دورها في انخفاض حصة الأجور، واتساع الفجوة بين المديرين التنفيذيين والعاملين، وتدمير المجتمع، وارتفاع الشعبوية. وقد ذهب دارون أسيموغلو وسايمون جونسون مؤخرا إلى أن اتجاه التغير التقني كان يعتمد دائما على من يملك القوة على اتخاذ القرار؛ ويتعين أن تتواجد النقابات على مائدة القرارات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي. فلم يعد حماس الاقتصاديين بشأن التغير التقني كأداة للإثراء الشامل قابلا للاستمرار (إن كان كذلك في أي وقت مضى).

وأنا أكثر تشككا بكثير في منافع التجارة الحرة للعاملين الأمريكيين وأتشكك أيضا فيما كنت أزعمه أنا وآخرون في الماضي، والذي يفيد بأن العولمة كانت مسؤولة عن الانخفاض الكبير في الفقر العالمي على مدار الثلاثين عاما الماضية. هذا، كما أنني لم أعد أدافع عن فكرة أن الضرر الذي الحقته العولمة بالعاملين الأميركيين كان ثمنا معقولا دفعناه لتقليص الفقر العالمي لأن العاملين في أمريكا أفضل حالا بكثير من فقراء العالم. وأعتقد أن انخفاض معدلات الفقر في الهند لم يكن له علاقة تذكر بالتجارة العالمية، وأن خفض معدلات الفقر في الصين كان من الممكن أن يحدث بأضرار أقل على العاملين في البلدان الغنية لو كانت السياسات الصينية سببا في دفعها إلى توفير قدر أقل من دخلها الوطني، بحيث يكون من الممكن استيعاب جزء أكبر من نمو صناعتها التحويلية في الداخل. هذا، كما أنني لم أفكر بالقدر الكافي في أحكامي الأخلاقية بشأن المفاضلات بين العاملين المحليين والأجانب. ومن المؤكد أننا نتحمل واجب مساعدة الذين يعانون من ضائقة، ولكن علينا التزامات إضافية تجاه مواطنينا لا نتحملها تجاه الآخرين.

وكنت أؤيد التوافق في الآراء شبه التام بين الاقتصاديين على أن الهجرة إلى الولايات المتحدة شيء جيد، حيث تعود بمنافع كبيرة على المهاجرين وتنتج عنها تكاليف ضئيلة أو معدومة بالنسبة للعاملين المحليين من ذوي المهارات المنخفضة. ولم أعد أعتقد في ذلك. ولا تتفق معتقدات الاقتصاديين على هذا الأمر، ولكنها تتشكل من خلال تصاميم الاقتصاد القياسي التي قد تكون ذات مصداقية، وإن كانت غالبا ما تستند إلى نتائج قصيرة الأجل. ويشير التحليل الأطول مدى على مدار القرن ونصف القرن الماضي إلى قصة مختلفة. فقد كانت درجة عدم المساواة مرتفعة عندما كانت أمريكا مفتوحة، وكانت أقل بكثير عندما أُغلِقَت الحدود، وارتفعت مرة أخرى بعد صدور قانون هارت-سيلر (قانون الهجرة والجنسية لعام 1965) مع عودة نسبة أولئك المولودين في الخارج إلى مستوياتها في العصر المذَّهب. وقد قيل أيضا إن الهجرة الكبرى لملايين الأمريكيين من أصل إفريقي من المناطق الريفية في الجنوب إلى المصانع في الشمال لم تكن لتحدث لو كان أصحاب المصانع قادرين على توظيف المهاجرين الأوروبيين الذين كانوا يفضلونهم.

ومن الممكن أن يستفد الاقتصاديون من زيادة التفاعل مع أفكار الفلاسفة والمؤرخين وعلماء الاجتماع، تماما كما فعل آدم سميث ذات يوم. ومن المرجح أن يستفد الفلاسفة والمؤرخون وعلماء الاجتماع كذلك.

أنغوس ديتون هو أستاذ دوايت أيزنهاور الفخري للاقتصاد والشؤون الدولية في كلية الشؤون العامة والدولية والاقتصاد في جامعة برينستون، وهو حائز على جائزة نوبل التذكارية في الاقتصاد لعام 2015.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.