5 min (1403 words) Read

بإمكان الاقتصاديين القيام بدور مهم في تطوير الابتكارات من أجل تلبية الاحتياجات الاجتماعية والبيئية والاحتياجات البشرية الأخرى

نعلم أن الابتكار محرك أساسي للنمو الاقتصادي، إلا أن الابتكار الفني والاجتماعي قد دفع أيضا إلى تحسينات في مجالات الصحة ومعالجة عدم المساواة والعلاقات الاجتماعية. والابتكارات المعاصرة في مجالات الأحياء والذكاء الاصطناعي تنطوي على إمكانات هائلة لتعزيز الرخاء وتحسين الصحة والتعليم (بما في ذلك الموجهة لأكثر الفئات المحرومة في العالم) ومواجهة التحديات العالمية مثل الجوائح وتغير المناخ.   

وفي الوقت ذاته، يشعر الكثيرون بالقلق من أن هذه الابتكارات قد تُعَرِّض البيئة لمزيد من الخطر، وأن تزيد من عدم المساواة، وتؤدي إلى الاستقطاب السياسي. وبوصفنا اقتصاديين نستطيع أن نساهم في تصميم المؤسسات لتحقيق اتساق أفضل بين الحوافز الخاصة لوتيرة الابتكار واتجاهه والاحتياجات البشرية والبيئية. ونستطيع كذلك أن نساهم مباشرة في عملية الابتكار من خلال المساعدة في تطوير الابتكارات الاجتماعية واختبارها بدقة. 

سد الثغرات

سُجِّل أكثر من 5 آلاف ابتكار كبراءات اختراع ذات صلة بمكافحة حشرة حفَّار ساق الذرة الأوروبي (وهي آفة تأكل الحبوب)، غير أن خمسة منها فقط تكافح حشرة حفار ساق الذرة، وهي آفة مماثلة تؤثر أساسا على الإنتاج في إفريقيا جنوب الصحراء. ويمكن للتحليل الاقتصادي المساعدة في تحديد الحالات المماثلة، حيث تتباعد الاحتياجات الاجتماعية عن الحوافز التجارية للاستثمار في الابتكار تباعدا كبيرا في ظل المؤسسات القائمة. وكذلك يمكن الاسترشاد به في تصميم السياسات والمؤسسات لمعالجة هذه الثغرات. وسوف أسوق هنا أمثلة من التحديات المرتبطة ببعضها وهي تغير المناخ وانعدام الأمن الغذائي والإنتاجية الزراعية في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. ومثلما توضح أمثلة حشرة حفار ساق الذرة الأوروبي، فإن هذا المجال يتسم بثغرات كبيرة للغاية بين الحوافز الاجتماعية والتجارية على الابتكار.

وربما كانت أكثر الأمثلة وضوحا هي أن المؤثرات الخارجية الإيجابية لابتكارات تخفيف آثار تغير المناخ كبيرة (وهي تعود بالنفع على الناس بخلاف مستهلك الابتكار)، مما يعني أن الحوافز التجارية على الاستثمار فيها محدودة. فعلى سبيل المثال، انبعاثات الميثان من الماشية تمثل 15% تقريبا* من كل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بشرية المنشأ، في حين أن المواد المبتكرة التي تُضاف إلى الأعلاف يمكنها أن تقلل هذه الانبعاثات بنسبة 98%. ولكن بما أن المزارعين لا يجدون حوافز قوية على شراء هذه المواد التي تُضاف إلى الأعلاف، فإن المبتكرين المحتملين في مجال الأعلاف لا يجدون حوافز قوية للاستثمار في البحوث والتطوير. 

والابتكارات الأخرى هي سلع عامة وستتسم بنقص المعروض منها في السوق. فعلى سبيل المثال، التغير المناخي يُحدث خللا في أنماط الطقس في حين أن التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي يُمَكِّن من وضع تنبؤات جوية أكثر دقة. والمزارعون يتفاعلون مع هذه التنبؤات*. ويمكن لتَحسُّن التنبؤات بالرياح الموسمية أن يدر منافع تتجاوز قيمتها ثلاثة مليارات دولار للمزارعين على مدار خمس سنوات في الهند وحدها، وربما تُقدر بمائة ضعف تكلفتها*. وبالإضافة إلى ذلك، فإن خدمات المعلومات توفر مزايا تتجاوز مشتري السلع حيث لا يزال بإمكان المزارعين الذين لا يشتركون في هذه الخدمات أن يحصلوا على المعلومات من المشتركين.  

والابتكارات في تقديم الخدمات الحكومية، مثل التقنيات الجديدة للإرشاد الزراعي الرقمي، تواجه مشكلة المشتري المُحتَكِر بما أن الحكومة هي أكثر مشترٍ مقبول. وقد يُحجم المبتكرون كذلك عن الاستثمار في الابتكارات ذات الحواجز المحدودة أمام الدخول في السوق مثل أصناف المحاصيل المقاومة لتغير المناخ التي يستطيع المزارعون إعادة زراعتها في المواسم المقبلة بدون إعادة شراء البذور. 

بوصفنا اقتصاديين نستطيع أن نساهم في تصميم المؤسسات لتحقيق اتساق أفضل بين الحوافز الخاصة لوتيرة الابتكار واتجاهه والاحتياجات البشرية والبيئية.
سياسات الابتكار

بإمكان النظرية الاقتصادية والتحليل التجريبي كذلك أن يساهما في تصميم أنظمة تمويل البحوث. فكيف ينبغي أن يُخَصَّص التمويل للبحوث أو يُقَسَّم بين البحوث الأساسية والبحوث التي تتسم بأنها ذات طابع تطبيقي أكثر؟ وما القواعد التنظيمية التي يتعين وضعها لحماية السلامة؟ ومتى ينبغي تخصيص التمويل للجهود المركزية واسعة النطاق ومتى ينبغي تخصيصه من خلال طلبات عروض مفتوحة من الباحثين الأفراد مع إجراء مراجعة النظراء؟ وهل ثمة طرق أفضل لاكتشاف ورعاية أعضاء الجيل التالي من الباحثين المرتقبين الذين قد لا يتمكنون بخلاف ذلك من دخول هذا المجال؟

وبإمكان علم الاقتصاد كذلك أن يقوم بدور المرشد في تصميم الحوافز على الابتكار التي لا تشترط على الحكومات أن تختار الفائزين مسبقا. وهناك عدد كبير من الدراسات حول كيفية تصميم براءات الاختراع على النحو الأمثل لتحقيق التوازن بين الحوافز على الابتكار وتشوهات التسعير الاحتكاري. ويجدر أيضا استكشاف مناهج بديلة للمكافأة على الابتكارات، مثل الجوائز أو التزامات السوق المسبقة بالشراء، التي يلتزم بموجبها الممولون بشراء ابتكار مستقبلي إذا استوفى المعايير الفنية والتسعيرية المحددة سلفا وحظي بطلب سوقي. فبعد التزام سوق مسبق قيمته 1,5 مليار دولار لتطوير لقاح المكورات الرئوية، قامت ثلاث شركات بتطوير لقاحات أثبتت فعاليتها ضد السلالات التي عادة ما توجد في الاقتصادات النامية. وقد وصلت هذه اللقاحات الآن* إلى مئات الملايين من الأطفال وأنقذت حياة 700 ألف شخص تقريبا.

ويمكن كذلك تصميم إجراءات المشتريات الحكومية للحث على الابتكار. فعلى سبيل المثال، الأسمنت هو مصدر* ما يقارب 7% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وحيث أن الحكومات هي المشتري الكبير له، وتصل حصتها نصف استهلاك الولايات المتحدة من الأسمنت، فبإمكانها إعطاء دفعة للابتكار في مجال صناعة الأسمنت منخفض الكربون وذلك ببساطة عن طريق التزامها بإدخال التكلفة الاجتماعية للكربون ضمن عمليات المشتريات.  

الاقتصاديون بوصفهم مبتكرين

إضافة إلى دور الاقتصاديين في إلقاء الضوء على صياغة السياسات وتصميم المؤسسات لاستيعاب الابتكار، فبإمكانهم أيضا أن يسهموا بشكل مباشر في عملية الابتكار. فعلى سبيل المثال، استخدم واضعو النظريات الاقتصادية مبادئ التصميم السوقي لتصميم أنظمة المضاهاة في زراعة الكلى، كما يستخدم خبراء اقتصاد التنمية المناهج التجريبية ليس فقط في اختبار الابتكارات وإنما للمساعدة في تطويرها أيضا. ووجد تحليل أجراه برنامج "Development Innovation Ventures"– وهو صندوق الابتكار الاجتماعي متعدد المستويات والقائم على الأدلة التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية – أن 36% من الجوائز كانت من نصيب ابتكارات طورتها فرق عمل من بينها خبراء اقتصاد التنمية، ووصل نطاق تأثيرها إلى ما يزيد عن مليون مستخدم مقارنة بنسبة 6% فقط من الجوائز حازت عليها الابتكارات التي لم تحظ بمثل هذه المشاركة.

وعلاوة على ذلك، فإن 63% من الابتكارات التي دعمها برنامج "Development Innovation Ventures" التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وتم اختبارها من قبل في تجارب عشوائية خاضعة للرقابة قد وصلت إلى أكثر من مليون شخص مقارنة بنسبة 12% فقط* من الابتكارات التي لم تُجرى عليها مثل هذه التجارب. فعلى سبيل المثال، ساعد الاقتصاديون في تطوير منهج لاحتساب الجدارة الائتمانية باستخدام القياس النفسي (وهو اختبار نفسي) لتقييم مخاطر التعثر في السداد للمقترضين المحتملين الذين ليس لديهم تاريخ ائتماني، وتقدم هذا المنهج حتى اعتمده المقرضون التجاريون.

ومثلما يطور أحيانا علماء الكيمياء الحيوية وعلماء الكمبيوتر ابتكارات عملية في مجالاتهم، فإن تطوير الاقتصاديين للابتكارات الاجتماعية في مجالنا آخذ في الازدياد.

*بالانجليزية

مايكل كريمر أستاذ بقسم كينيث غريفين للاقتصاد بجامعة شيكاغو، ومدير مختبر الابتكارات الإنمائية، وحائز على جائزة نوبل عام 2019.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.