5 min (1403 words) Read

تسعير السياسات لا يقيس الأمور التي تهم البشر

أصبح إصدار الأحكام على أساس السعر هو النمط السائد الآن، ليس في الاقتصاد فحسب، بل في السياسة العامة أيضا. وتحيط بمفهوم تسعير السياسات – من خلال قياس المزايا التي تعود على المجموعات المستهدفة والتكاليف التي قد يتحملها الآخرون باستخدام نفس وحدة القياس – هالة من الموضوعية والشفافية.

والهدف من ذلك هو تمكين صُناع السياسات من الاختيار العقلاني من بين سبل مختلفة لحل المشكلة نفسها: مقارنة المشكلات المختلفة والسياسات المستخدمة في حلها حسب فعاليتها النسبية فقط من حيث التكلفة بالدولار أو بعملة أخرى. وبمجرد الانتهاء من جميع القياسات والمقارنات، يكاد يكون من الممكن الاستغناء عن الاعتبارات السياسية.

وهكذا يمكن أن تتحول فوضى السياسات، حيث المعاناة التي لا تنتهي من أجل إيجاد أرضية مشتركة بين أهداف غير متكافئة بطبيعتها، إلى لوحة جدولية مبسطة تتيح انتقاء الخيار الأكثر فعالية من حيث التكلفة. وتصبح الحكومة حوكمة قائمة على التسعير.

ويحتذي هذا المفهوم بنموذج الأسواق المثالية من النوع الذي لا نجده إلا في الكتب الدراسية. وتكمن الفكرة في أن التبادل التجاري يكشف للمشترين والبائعين قيمة الأشياء، وبالتالي يحمل السعر جميع المعلومات ذات الصلة. وبطبيعة الحال، لا ينطبق هذا إلا على الأسواق ذات الكفاءة - أي الأسواق التي لا وجود فيها لتكلفة المعلومات وتكلفة المعاملات، وحيث لا مكان للمعاملات التي قد تفيد شخصا ما دون أن تضر أخر.

ولكن مفهوم "كفاءة باريتو"، كما تسمى حالة التوازن تلك، غير قابل للتحقيق في العالم الحقيقي. ولهذا السبب، اُستعيض عنه في معظم الحالات بتحليل بسيط لصافي المزايا. وما دام صافي المزايا يتجاوز صافي التكاليف، تصبح السياسة جديرة بالتطبيق*. ولكن قياس كافة التكاليف وكافة المزايا، وتسعير كل منها، أمر بالغ الصعوبة. فأسعار معظم الأنشطة والموارد إما غير موجودة أو غير ملاحظة، وبالتالي يجب أن نعمد إلى تحديدها على أساس افتراضات منقوصة بالضرورة، أو متحيزة لصالح تسهيل القياس، والتي غالبا ما تكون خاطئة تماماً.

افتراضات خاطئة

وحتى الأسواق المالية، وهي الدافع لوضع أول نموذج للكفاءة، تعتمد على بنية تحتية مؤسسية* مكونة من قواعد إفصاح ووكالات تصنيف وتحليلات مالية وجهات تنظيمية ورقابية، لإعداد تقديرات تقريبية حول كفاءة المعلومات. غير أن هذه الاستثمارات العامة في تحقيق الاستقرار المالي لم تحل على كثرتها دون تراكم الفقاعات وما يلحق بها من أزمات كما يلحق الليل بالنهار.

ويمكن لشيء بسيط مثل معلومة جديدة تم تجاهلها في وقت سابق أن يؤدي إلى مسارعة عدد كاف من المستثمرين إلى الخروج من السوق وبدء دوامة من الانخفاضات المتعاقبة في الأسعار. ومع هبوط الأسعار، يتجه المزيد من المستثمرين للبيع، ومع زيادة عدد البائعين، يتهاوى المزيد من الأسعار. ولا يمكن إيقاف هذه الديناميكية، حيث تكون الأسعار هي السبب والتأثير في آن واحد، إلا من خلال تدخل الحكومة لوضع حد أدنى للأسعار باعتبارها التاجر أو مقرض الملاذ الأخير*.

قد تشير شاشات عرض أسعار الأسهم في البورصة ومعدلات النمو إلى عدة أمور عن الاقتصاد، ولكنها لا تتطرق إلى تداعياتها على رفاه الإنسان أو البيئة.

وحتى في أفضل الظروف، لا يتضمن سعر الأصول المالية سوى معلومات محدودة عن الأصل الأساسي. وكما أشار جون ماينارد كينز منذ فترة طويلة، فإن سعر الأصل هو انعكاس لمعتقدات حول المقابل الذي يأمل المستثمرون في الحصول عليه عند بيع الأصل في المستقبل. والأمر يشبه مسابقة جمال يفوز فيها من يتنبأ بالشخص الأجمل في نظر الآخرين. فهو لا يتعلق بالجمال في حد ذاته أو "بالقيمة الأساسية" للمنشأة الاقتصادية التي طرحت الأصول للتداول.

والمؤسسات التجارية قد تكون أقل تعقيدًا من الدول، ولكنها أيضًا منشآت معقدة يصعب قياسها بمقياس واحد. فقد أنشئت الشركات في الماضي لإنتاج سلع أو خدمات كانت محل طلب من البعض. وفي الأصل، كان على الشركات أن تحدد غرضا لها للحصول على امتياز التأسيس – أي العمل كشخص اعتباري مستقل يمتلك أصوله الخاصة، ويتعاقد بالأصالة عن نفسه، ويمكنه حماية مساهميه من تحمل المسؤولية عن عملياته.

أما اليوم، فلم تعد الشركات ملتزمة بغرض محدد. وعوضا عن ذلك، أصبح غرضها تعظيم قيمة حقوق المساهمين. ونتيجة لذلك، أصبحت الشركات بمثابة دور لسك النقود، حيث تُستخدم أصول الشركات كضمان، وتمنح خطط إعادة شراء الأسهم السيولة للمساهمين عند الطلب، وتخفض تكاليف العمالة – باستثناء تعويضات المديرين وكبار المسؤولين، الذين يجب أن تتسق حوافزهم مع حوافز المساهمين لنجاح هذا النموذج.

ماكينات النقد المؤسسية

أسفر تحول الشركات إلى ماكينات نقد لصالح المستثمرين عن غرائب. ومن أمثلة ذلك شركة بوينغ التي تصدرت عناوين الأخبار منذ عدة سنوات عندما تحطمت طائرتان من طراز 737 ماكس، ومؤخرا مرة أخرى عندما انفجر أحد الأبواب في منتصف الرحلة. وعقب هذه الأحداث السابقة التي خلفت مئات القتلى من الركاب، وأقارب ثكالى من ورائهم، وتسببت في إيقاف الطائرات لعدة أشهر لإجراء فحوصات السلامة، أقام المساهمون دعوى قضائية ضد مديري الشركة*. وطالبوا الشركة بتعويضات بمئات الملايين من الدولارات* بسبب الإخفاق في مراقبة سلامة منتجاتها.

وكشفت القضية عن إخفاق مجلس الإدارة في مراقبة سلامة الطائرات. فقد كان لمجلس الإدارة لجنة تدقيق ولجنة تعويضات، ولكن لم تكن هناك لجنة معنية بسلامة المنتجات. كذلك، لم يكن هناك أي نظام معلومات لإبلاغ المديرين بمخاوف المهندسين حيال سلامة الطائرات.

وكانت الشركة في الواقع قد نقلت مقرها الرئيسي من سياتل، قاعدة إنتاجها، إلى شيكاغو، قاعدة مستثمريها، ثم إلى القمة حيث واشنطن العاصمة، التي من المفترض أن تكون قاعدة غطائها السياسي. ولم يرتكب المديرون أي أخطاء من وجهة نظرهم. فقد فعلوا ما أملوه المساهمون الناخبون عليهم: تعظيم قيمة حقوق المساهمين.

وجاء في إدانة محكمة ديلاوير تشانسري، التي ناصرت طويلا تعظيم قيمة حقوق المساهمين، أن شركات إنتاج الطائرات تقع على عاتقها مهمة بالغة الأهمية، ألا وهي ضمان قدرة طائراتها على الطيران. وكان إخفاق الشركة في وضع نظام للمعلومات والمراقبة لتنبيهها إلى مشكلات السلامة بمثابة مخالفة لواجباتها الاستئمانية.

وردا على طلب بالتعليق، أشارت شركة بوينغ إلى أنه منذ عام 2019، تم تعيين أعضاء بالمجلس يتمتعون بخبرة واسعة في مجالي الهندسة والسلامة، واستحداث منصب كبير مسؤولي سلامة الطيران، وتشكيل مجالس للرقابة على التصنيع والجودة.

وبوينغ ليست حالة فردية. فقد عرَّضت شركات أخرى عملائها للخطر سعياً وراء تعظيم قيمة حقوق المساهمين. ورغم ذلك، فإن الدروس المستفادة من خطورة إصدار الأحكام على أساس سعر السهم بدلا من الغرض قد تم تجاهلها إلى حد كبير. ففي الواقع، تسعى مجددا صناديق التحوط وصناديق الاستثمار في الأسهم إلى استخلاص العائدات المالية – وهي القيمة الوحيدة التي تعترف بها، مهما كانت التكاليف التي يتحملها الآخرون. والأسوأ من ذلك أن آلية الأسعار تعمل على تحويل السياسة والحكومة إلى آلة للتسعير أيضاً.

وهكذا أصبح للمعايير والقياسات وإنشاء الأسعار الأولوية على حساب التدبر والتفكير المنطقي والتقدير. وقد تشير شاشات عرض أسعار الأسهم في البورصة ومعدلات النمو إلى عدة أمور عن الاقتصاد، ولكنها لا تتطرق إلى تداعياتها على رفاه الإنسان أو البيئة. ولا تعكس أي دلالة تُذكر حول سلامة النظام السياسي والعلاقات الاجتماعية.

وفي الوقت الذي يبحث فيه المستثمرون عن ملاذات آمنة لأموالهم، لا تزال غالبية خدمات تقديم الرعاية غير مدفوعة التكلفة، وتتحدد قيمة الإبداعات البشرية بقدرتها على جذب المشترين، وتُختزل الطبيعة إلى مجرد فئة أخرى من الأصول التي يمكن استغلالها للحصول على المال، وما تبقى من المجتمع تحصده المنصات الرقمية الهادفة للربح. وتلك هي التكلفة الاجتماعية لآلية الأسعار التي تغفل عن كل ما يهم البشر تقريبا.

* روابط بالانجليزية

كاثرينا بيستور أستاذ كرسي إدوين بي. باركر في القانون المقارن بكلية الحقوق في جامعة كولومبيا.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.