5 min (1403 words) Read

تقف الهند على مشارف تحول يمكن أن يغير مستقبلها الاقتصادي والاجتماعي

قبل نهاية هذا العقد، سيستخدم المزيد من مواطني الهند الذكاء الاصطناعي يوميا بشكل يفوق أي بلد آخر في العالم. وعلاوة على ذلك، سيفاجأ الناس في الاقتصادات المتقدمة بالطرق التي سيستخدم بها البلد الذكاء الاصطناعي. وتقف الهند على أعتاب ثورة تكنولوجية يمكن أن تغير مسار مستقبلها الاجتماعي والاقتصادي، وفي هذه الثورة دروس لبقية بلدان العالم.

وتتوقف تنبؤاتنا على ثلاث حقائق هي أن الهند في حاجة إليه والهند مستعدة له، والهند ستنجح في ذلك.

ويتطلع بقية العالم دائما إلى الذكاء الاصطناعي بفضول، في انتظار حالات الاستخدام الحقيقي. ونحن في الهند نرى إمكانات حاليا.
الهند في حاجة إليه

يكتسب مفهوم استراتيجية "الصين زائد واحد" زخما في ظل تحذيره بألا ينبغي على الشركات العالمية أن تعتمد بشكل مفرط على الصين في تلبية احتياجاتها ذات الصلة بالصناعات التحويلية والبرمجيات. وتعتبر الهند، في ظل استثماراتها المتنامية في البنية التحتية، وسياساتها المواتية، والقوى العاملة الشابة، المستفيد الأرجح من هذا التحول. وربما تكون البلد الوحيد الذي يتوقع أن يضاهي الصين من حيث حجم اقتصادها.

فالهند، التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة، هي أقرب إلى أن تكون قارة من أن تكون بلد. ويبلغ عدد سكانها ضعف عدد سكان أوروبا تقريبا. غير أن متوسط الأعمار في الهند يبلغ 28 عاما، مقارنة بمتوسط يبلغ 44 عاما في أوروبا، الأمر الذي يعني أن لديها نسبة أكبر من السكان ممن هم في سن العمل. وهذه هي نقطة البداية: فالهند بلد كبير جدا ولديه شباب صغار السن جدا .

وهذه الميزة الديمغرافية، والاتجاهات العالمية المواتية، وإطلاق الإمكانات التي ظلت مكبوتة لعقود، قد بدأت تأتي ثمارها. وبرغم أن التوقعات بشأن الاقتصاد الكلي لأغلب بلدان العالم تبدو منخفضة أو قاتمة، إلا أن الهند لا تزال نقطة مضيئة. فشباب الهند طموحون ومتحمسون لاستغلال كل فرصة للارتقاء بمستوى معيشتهم.

إن ما يميز الهند حقا عن الغرب هو احتياجاتها والتحديات الفريدة التي تواجهها. فالتنوع السكاني في الهند والمخاوف الاجتماعية والاقتصادية المعقدة يعنيان أن الذكاء الاصطناعي لديها لا يتعلق بتطوير أحدث التكنولوجيات فحسب، بل يتعلق أيضا بإيجاد حلول مبتكرة لمعالجة المشاكل الملحة في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والزراعة والاستدامة.

وبرغم أن حجم سكاننا يبلغ قرابة ضعف حجم سكان أوروبا، إلا أننا أكثر تنوعا. والهنود، مثل الأوروبيين، غالبا ما يتحدثون لغتين أو أكثر. وتقر الهند عددا من اللهجات يبلغ 19500 لهجة يتحدث بها ما لا يقل عن 10 آلاف نسمة. واستنادا إلى بيانات التعداد السكاني في الهند، تبلغ فرصة تحدُّث كل اثنين من الهنود، يتم اختيارهما عشوائيا، بلغة مشتركة نسبة لا تتجاوز 36%.

ومما يزيد من تعقيد هذا العائق اللغوي هو أن المعدل الرسمي للإلمام بالقراءة والكتابة في البلد يبلغ حوالي 77%، ويتباين بشكل كبير بين الولايات. وهذا يعني أن ما يتراوح بين 1 إلى 4 أشخاص لا يستطيعون القراءة أو الكتابة. وبرغم أن الحكومة تحاول أن تقدم مساعدات الرعاية الاجتماعية لأضعف فئات السكان، من الصعب نشر الوعي حول الخدمات والوصول إلى شبر في كل مجتمع. وقد يكون ملء استمارة بسيطة للحصول على مساعدة الرعاية الاجتماعية أمرا شاقا بالنسبة لشخص أمي. وتحديد الأهلية للحصول على المساعدة يعني الاعتماد على شخص يستطيع أن يقرأ ويكتب ويتعامل مع الإجراءات البيروقراطية. وفي الواقع، فإن تلقي الخدمات يعني أن يكون لدى المتقدم بطلب للحصول على المساعدة وكيل يساعده بحيث لا يكون مضللا، أو الأسوأ من ذلك، أن يكون فاسدا. وتؤثر هذه العوائق تأثيرا غير متناسب على أولئك الذين هم في أمس الحاجة إلى الحصول على المساعدات الحكومية.

نحن لدينا القدرة على حل الكثير من المشاكل التي يواجهها سكاننا، غير أن الجزء الصعب كان دائما في التوزيع، وليس في الحل. وفي الهند، نحن نعتقد أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد في سد الفجوة في الحصول على الخدمات. فالذكاء الاصطناعي يتيح للناس إمكانية الحصول على الخدمات مباشرة بصوتهم باستخدام اللغة الطبيعية، الأمر الذي يُمكنهم من مساعدة أنفسهم. ومثلما أشار الكاتب الكندي ويليام غيبسون بحصافة قائلا: "إن المستقبل بالفعل أمامنا، ولكنه فقط غير موزع بالتساوي." ولا يوجد مكان في العالم يتجلى فيه هذا الأمر بشكل أوضح مما هو عليه في الهند.

ويتطلع بقية العالم دائما إلى الذكاء الاصطناعي بفضول، في انتظار حالات الاستخدام الحقيقي. ونحن في الهند نرى إمكانات حاليا. وبرغم أن هذا الأمر قد يصدق على العديد من الاقتصادات النامية الأخرى، إلا أن العامل المهم الآخر هو أن:

الهند مستعدة له

إن سكان الهند ليسوا شبابا فحسب، بل إنهم أيضا متصلون بالإنترنت. فوفقا للجهة المنظمة لقطاع الاتصالات في الهند، هناك أكثر من 790 مليون مستخدم لخدمة الإنترنت بتقنية الشبكات عريضة النطاق للأجهزة المحمولة. ويستمر نطاق انتشار الإنترنت في الاتساع ومع توافر خطط بيانات بأسعار معقولة، ويرتفع عدد الأشخاص المتصلين بالإنترنت. وقد أوجد ذلك قاعدة ضخمة من المستخدمين لتطبيقات الذكاء الاصطناعي وخدماته.

غير أن الأمر الذي تفوقت فيه الهند على جميع البلدان الأخرى يكمن في بنيتها التحتية الرقمية العامة. اليوم، كل فرد هندي تقريبا لديه هوية رقمية بموجب نظام "آدهار" (Aadhaar) للهوية الرقمية. ويوفر هذا النظام رقم هوية فريد مكون من 12 رقما مع خيار للمستخدم من أجل المصادقة على هويته رقميا، أي لإثبات هويته بحسب ما يدَّعي.

علاوة على ذلك، فقد أنشأت الهند نظام دفع فوري منخفض التكلفة وقابل للتشغيل البيني. وهو ما يعني أن أي مستخدم لأي بنك يمكنه الدفع لأي شخص أو تاجر آخر باستخدام أي بنك آخر على الفور ودون أي تكلفة. ويعالج هذا النظام - واجهة المدفوعات الموحدة - أكثر من 10 مليارات معاملة شهريا. وهو أكبر نظام للدفع الفوري في العالم إذ يعالج حوالي 60% من معاملات الدفع الفوري في جميع أنحاء العالم.

وفي ظل نجاح هذه النماذج، تتبنى الهند الابتكار في الشبكات المفتوحة بوصفها بنية تحتية رقمية عامة. ولنأخذ على سبيل المثال شبكة "ناما ياتري"، وهي شبكة للنقل حسب الطلب أُنشأت بالتعاون مع اتحاد سائقي عربات "الرِّكشة" في بنغالور، وقد أطلقت في نوفمبر 2022. ويمتلك هؤلاء السائقون التطبيق الخاص بهم، ويُسدد رسما ثابتا نظير استخدام التطبيق، ولا يُدفع نسبة عمولة ولا يوجد وسيط. ويسجل التطبيق ما يقرب من 90 ألف رحلة يوميا، وهو ما يقارب عدد الرحلات التي تسجلها شركات النقل حسب الطلب في المدينة.

وعلى النقيض من البلدان الغربية التي لديها نظم قديمة تتطلب إصلاح شامل، فإن "الصفحة البيضاء" للهند تعني إمكانية إنشاء نظم تضع الذكاء الاصطناعي في قمة أولوياتها من الألف إلى الياء. ويشكل اعتماد البنية التحتية الرقمية العامة على نحو سريع حجر الأساس لهذه التكنولوجيات. وتولد هذه البنية التحتية كميات هائلة من البيانات، وبفضل إطار تجميع الحسابات في الهند، فإن البيانات تظل تحت رقابة المواطنين، مما يعزز من ثقة الجمهور ويشجع على الاستخدام. وبهذه الأسس المتينة، فإن الهند تتمتع بوضع جيد يؤهلها لقيادة الجهود الرامية إلى اعتماد الذكاء الاصطناعي.

الهند ستنجح في ذلك

في سبتمبر 2023، أطلقت الحكومة الهندية، بالتعاون مع مؤسسة "EkStep"، روبوت الدردشة الخاص ببرنامج "PM-Kisan". ويعمل روبوت الدردشة باستخدام الذكاء الاصطناعي مع برنامج "PM-Kisan"، وهو برنامج الهند لتحويل المنافع مباشرة للمزارعين والذي أُنشأ في عام 2019 لتقديم المساعدة المالية للمزارعين الذين يمتلكون أراض. وقد كان دائما الدخول إلى البرنامج والحصول على المعلومات ذات الصلة وحل الشكاوى يمثل مشكلة بالنسبة للمزارعين. ويتيح روبوت الدردشة الجديد للمزارعين القدرة على معرفة ما إن كانوا مؤهلين والحالة الراهنة لطلباتهم ومدفوعاتهم باستخدام أصواتهم فقط. وفي يوم إطلاقه، تواصل أكثر من 500 ألف مستخدم مع الروبوت، ويجري إصدار الميزات ببطء لضمان تطبيقه بشكل آمن وإدارة مخاطره.

وتأتي هذه الخطوات في إطار اتجاه مشجّع من قِبَل الحكومة الهندية نحو اعتماد التكنولوجيا الجديدة بشكل مبكر. بيد أن هذا الاتجاه يتجاوز جهود الحكومة. فقد انطلقت في الهند أيضا المنظومة البيئية النشطة للتكنولوجيا، وهي نتيجة مباشرة لازدهار صادراتها من تكنولوجيا المعلومات - والتي تبلغ حاليا ما يقرب من 250 مليار دولار أمريكي سنويا. وإلى جانب المطورين من الولايات المتحدة، تحتضن الهند أكبر عدد من المطورين على واجهة GitHub، وهي خدمة قائمة على الحوسبة السحابية لتطوير البرمجيات. ولا يقتصر هذا القطاع على الابتكار فحسب، بل يعتمد أيضا البنية التحتية الرقمية العامة على نطاق واسع. ويأخذ التأثير شكل دوري: فالشركات المبتدئة تغذي الثقافة التكنولوجية المتنامية، وتستفيد بدورها من البيانات لإنشاء أدوات للذكاء الاصطناعي تكون أكثر دقة ونفعا. علاوة على ذلك، فإن المنظومة البيئية الديناميكية للشركات المبتدئة في الهند تعمل بنشاط على إيجاد حلول للذكاء الاصطناعي بهدف معالجة مختلف التحديات.

وبمقدور الذكاء الاصطناعي أن يغير من قواعد اللعبة في التعليم أيضا من خلال المساعدة في سد الفجوة المتعلقة بالإلمام بالقراءة والكتابة. وتتسم تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي بوضع فريد يمكنها من مساعدة الطلاب على التعلم بلغاتهم الأم، فضلا عن تعلم اللغة الإنجليزية. فتطبيقات الذكاء الاصطناعي لا تفيد الطلاب فحسب، بل تمتد أيضا لتشمل المعلمين، الذين غالبا ما تثقلهم المهام الإدارية التي تصرفهم عن التدريس. ومع اضطلاع الذكاء الاصطناعي بالمهام الروتينية في الحكومة والشركات المبتدئة، تتطور أدوار المعلمين والطلاب، ويكونون شراكات ديناميكية تركز على التعلم العميق والتفاعل الإنساني الهادف.

وجل ما تحتاجه الهند هو خطة استراتيجية لاقتناص أهم الفرص التي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدم المساعدة فيها. ومفتاح الحل لا يكمن في البحث كثيرا عن التكنولوجيات، بل النظر في المشكلات التي يواجهها الناس ولم تستطع التكنولوجيا الحالية حلها. فقد تقدمت مؤسسات مثل "EkStep" بمبادرة يطلق عليها People+AI. وبدلا من أن تضع الذكاء الاصطناعي في قمة الأولويات، فإنها تركز على المشاكل التي يواجهها الناس. وأفضى ذلك إلى استخدامات جديدة مثيرة للدهشة وفريدة من نوعها في الهند.

إن مكانة الهند الصاعدة كقاطرة للتكنولوجيا، إلى جانب مشهدها الاجتماعي والاقتصادي الفريد من نوعه، تجعلها في وضع مواتٍ لتصبح البلد الأكثر استخداما للذكاء الاصطناعي في العالم بحلول نهاية هذا العقد. وبدءا من تبسيط العملية التعليمية وصولا إلى المساعدة في برامج الحماية الاجتماعية، ينطوي الذكاء الاصطناعي على إمكانات تؤهله للتوغل بعمق في المجتمع الهندي، وإحداث تغيير هادف وواسع النطاق .

ناندان نيليكاني هو رئيس مجلس إدارة شركة Infosys ومؤسس مشارك فيها والرئيس المؤسس لهيئة تحديد الهوية الفريدة في الهند (آدهار). 
تانوغ بوجواني هو رئيس مبادرة People+AI.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.