5 min (1403 words) Read

عجل الذكاء الاصطناعي بحدوث تحولات في ديناميكية ساحة المعركة، ويسعى صناع السياسات إلى اللحاق بالركب

صارت حرب روسيا في أوكرانيا حقل اختبار للتكنولوجيا الجديدة، لا سيما البرهنة على كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي لإحداث أثر كبير. بيد أنها سلطت الضوء أيضا على نقاط الضعف في كيفية قيام الحكومات وصناعة الدفاع باعتماد التكنولوجيا القائمة على الذكاء الاصطناعي ونشر استخدامها والتحكم فيها.

وقد استُخدم الذكاء الاصطناعي بعدة طرق في الحرب الأوكرانية، بدءا من صنع القرارات الاستراتيجية على نطاق واسع – من خلال كيفية لتصرف بناء على معلومات استخباراتية فورية أو حديثة على المستوى المحلي – وانتهاءً بأداء مهام أكثر اعتيادية، مثل التنبؤ بالتحديات اللوجستية. وهناك استخدام رابع يتعلق بالحرب المعلوماتية، وهو طريقة للاستفادة من الذكاء الاصطناعي في "صياغة الكيفية التي يعمل بها البناء السردي"، حسب تعبير ماثيو فورد من جامعة الدفاع السويدية في ستوكهولم والمؤلف المشارك لكتاب عن الانفجار الرقمي في ساحة المعركة بعنوان الحرب الراديكالية: البيانات والانتباه والتحكم في القرن الحادي والعشرين.

ولكن، برغم ما كشفت عنه الحرب من أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد الجيوش في رصد تحركات العدو وتسليم الحمولات المنقولة من بُعد وبشكل مستقل، فإنها عجلت أيضا بالتحولات في ديناميكية ساحة المعركة. وسرعان ما تُغَير القوات تكتيكاتها وتقنياتها وإجراءاتها، إما للاستفادة من التكنولوجيا الجديدة أو للتخفيف من أثرها.

والفشل في التكيف السريع يمكن أن يستغله عدو سريع الحركة. فعندما تَواصَل الجنود والطيارون الروس دون تشفير محادثاتهم، أنتجت أوكرانيا برنامجا قائما على الذكاء الاصطناعي للتعرف على الصوت والترجمة، من أجل مراقبة هذه الاتصالات واستخلاص معلومات استخباراتية كافية للاستخدام. وحتى عند اعتماد تدابير مضادة، يتعين على كل طرف أن يكون مستعدا لإعادة النظر في تكنولوجيته وتعزيزها بنفس سرعة الطرف الآخر. فعلى سبيل المثال، عندما أدخلت روسيا نظام التشويش الإلكتروني حتى تتصدى للطائرات الأوكرانية المقاتلة بلا طيار، طورت كوادر المبرمجين في كييف أداة للذكاء الاصطناعي لمساعدة مقاتلاتها على تجنب التشويش الروسي والتركيز المستمر على الهدف.

الطائرات المسيَّرة بلا طيار

ويختلف سباق الأسلحة التكنولوجية هذا اختلافا جذريا عما كان يعتقده الكثير من المفكرين العسكريين بشأن انتشار الذكاء الاصطناعي. ومن أوجه الاختلاف أن المبادئ التي تقوم عليها المركبات الجوية بلا طيار (UAVs)، لم تشهد تغيرا كبيرا منذ تسعينات القرن الماضي. غير أن مدى الطائرات المسيَّرة وقدراتها شهدا تطورا سريعا في أوكرانيا، وهو ما يعود في معظمه إلى إقران هذا التطور بالتقدم المستمر في الذكاء الاصطناعي. وبرغم أن المسيَّرة العسكرية من طراز Bayraktar TB2 التركية الصنع قد أسهمت بدور رئيسي في الدفاع عن أوكرانيا خلال الأشهر الأولى من غزو عام 2022، فإنها أصبحت أقل فائدة في ظل قيام روسيا بتعزيز قدراتها في الدفاع الجوي والحرب الإلكترونية.

ومع رسم المزيد من الخطوط الدائمة للمعركة في وقت متأخر من هذا العام، دفعت أوكرانيا صانعي الطائرات المسيَّرة لديها إلى إدخال تعديلات عليها. وأثمر ذلك سلسلة متتالية من الأجهزة المحسَّنة والمتنوعة. ففي سبتمبر، على سبيل المثال، وافقت كييف على نشر طائرات مسيَّرة من طراز "Saker Scout" محلية الصنع، يمكنها رصد أهداف العدو التي غالبا ما لا تراها العين البشرية، حتى وإن كانت مموهة.

وفي هذا الصدد تقول لورين كان، كبيرة محللي البحوث في مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة (CSET) بجامعة جورج تاون، إن هذا التركيز على التطور السريع قد ساعد في تغيير طريقة التفكير بين الخبراء الاستراتيجيين العسكريين. وبرغم التحمس للذكاء الاصطناعي في الدوائر العسكرية منذ عام 2021، إن لم يكن قبل ذلك، فإن الأمثلة العملية كانت إما افتراضية أو قائمة على مشروعات منفردة. وأردفت قائلة: "لقد تغير ذلك بعد أوكرانيا".

وبدأ خبراء التخطيط يدركون أن الذكاء الاصطناعي لم يكن قرارا سهلا، إنما مسألة أثارت سلسلة من التساؤلات الاستقصائية عما يمكن أن يجعله مجديا: البيانات، والمعرفة بما يخصك وما يخص الجانب الآخر، وإجراءات الاختبار والتقييم. وقالت لورين كان إن الطريقة المبتكرة التي طورت بها أوكرانيا تكنولوجيا الطائرات المسيَّرة هي أمر "لم يكن لأحد أن يتخيله".

البيانات

سلطت الحرب الأوكرانية الضوء على أهمية البيانات - الوقود الذي يمد الذكاء الاصطناعي بالطاقة – لكنها أثارت أيضا أسئلة مقلقة لصناع السياسات والمخططين. وقد أدركت أوكرانيا مبكرا أن ما كان يشكل بيانات في الحروب قد تغير. وسرعان ما أعادت تصميم تطبيق حكومي لتقديم الإقرارات الضريبية بما يتيح للمواطنين أيضا إمكانية تحميل الصور ومقاطع الفيديو وغيرها من التفاصيل بشأن القوات والمواقع الروسية إلى قاعدة بيانات يديرها الجيش.

وجمعت أوكرانيا صورا بالأقمار الاصطناعية المتاحة تجاريا وبيانات سرية من حلفائها، وكذلك عن طريق اختراق كاميرات المراقبة الروسية ومن أسطولها من الطائرات المسيَّرة. غير أنه كان يتعين تحويل كل هذه البيانات إلى معلومات كافية للاستخدام، ومن ثم لجأت كييف إلى شركات التكنولوجيا الخاصة – ومن أبرزها شركة Palantir، وهي شركة أمريكية متخصصة في تحليل البيانات الضخمة. وأدت مشاركة شركة Palantir إلى توسيع نطاق الدور الذي قد تسهم به شركات القطاع الخاص في معالجة البيانات الحساسة، خاصة أثناء الحرب. وفي تصريح رسمي، قال رئيسها التنفيذي، أليكس كارب، إن الشركة مسؤولة عن معظم عمليات الاستهداف في أوكرانيا. ووفقا لما ذكرته لورين كان من مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة، فإن الشركة "تقدم خدمة شبه كاملة، وهو ما أظن أنه أثبت قيمته الفائقة".

أما الأمر الذي لم يؤخذ في الاعتبار بصورة وافية، على الأقل علنا، فهو التداعيات. ويقول فورد من جامعة الدفاع السويدية إن شركات القطاع الخاص ستكون بالغة الأهمية لأنها المؤسسات الوحيدة القادرة على إنتاج ذلك النوع من الذكاء الاصطناعي الذي يمكن للقوات المسلحة أن تستخدمه. بيد أنه تساءل قائلا: "حالما يخرج للعلن، فإلى أين سيتجه بعد ذلك؟ وكيف سيتم التحكم فيه أو تشكيله أو توجيهه؟".

ساحة المعركة الرقمية

تقدم الحرب أيضا جانبا آخر من جوانب الذكاء الاصطناعي والبيانات. يقول أندرو هوسكينز، أستاذ الأمن العالمي في جامعة غلاسكو والمؤلف المشارك في كتاب الحرب الراديكالية مع فورد إن "الحرب الأوكرانية الروسية هي الحرب التي تتميز بأكبر قدر من التوثيق في التاريخ". وقال إن تطبيق تليغرام، منصة التواصل الاجتماعي التي يستخدمها حاليا ثلاثة أرباع الأوكرانيين وأكثر من ثلث الروس لنشر مقاطع الفيديو والصور بينما تدور رحى الحرب أمامهم، "هو ميدان المعركة الرقمية في هذه الحرب".

ولا يجري تحميل هذه المعلومات على خوادم الجيش والمخابرات فحسب، بل أيضا خوادم المنظمات غير الحكومية والمحققين الذين يقومون ببحثها لإثبات وتسجيل انتهاكات حقوق الإنسان بغية وتقديمها في محاكمات جرائم الحرب في المستقبل. وقال هوسكينز إن الذكاء الاصطناعي يعمل أيضا على تحسين ما يمكن رؤيته واستخلاصه. وعندما تطبِّق الذكاء الاصطناعي على هذه المحفوظات "ستبدأ في اكتشاف أمور لم تتوقعها قط".

جيريمي واغستاف يعمل خبيرا استشاريا في مجال التكنولوجيا والإعلام، وهو صحفي سابق في هيئة الإذاعة البريطانية ورويترز وصحيفة وول ستريت جورنال.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.