Credit: IMF and Adobe Stock

الأوضاع المالية الأيسر تمثل معضلة أمام البنوك المركزية

رغم التشديد الحاد للسياسة النقدية، فقد أصبحت الأوضاع المالية أكثر يسرا في العديد من أنحاء العالم، مما يضع تحديا أمام البنوك المركزية.

رفعت البنوك المركزية أسعار الفائدة بصورة حادة في العام الماضي حيث ارتفع التضخم في كثير من البلدان إلى أعلى المستويات منذ عقود. والآن، يؤدي تراجع أسعار الطاقة إلى تخفيض التضخم الكلي وإثارة التفاؤل بشأن إمكانية تيسير السياسة النقدية في وقت لاحق من هذا العام.

وأدت هذه التوقعات إلى انخفاض حاد في أسعار الفائدة العالمية الأطول أجلا كما أعطت دفعة للأسواق المالية في الاقتصادات المتقدمة والأسواق الصاعدة على السواء.

ورغم أن هذا قد يكون دافعا لاستنتاج أن السياسة النقدية تسير في اتجاه تقييدي مفرط ومن المرجح أن تتسبب في انكماش اقتصادي لا داعي له، فإن المستثمرين قد يكونون مفرطين في التفاؤل بشأن التقدم في مكافحة التضخم. فبينما انخفض التضخم الكلي بالفعل، وسجل التضخم الأساسي تراجعا طفيفا في بعض البلدان، فكلا الرقمين لا يزالان يتسمان بالارتفاع الشديد. ولذلك، يتعين على البنوك المركزية أن تتحلى بالإصرار في مكافحة التضخم وأن تضمن استمرار التشديد الملائم للسياسة النقدية لفترة تكفي لإعادة التضخم إلى انخفاضه المستهدف على أساس دائم.

تشديد حاد

بعد عدة سنوات من التضخم المنخفض، كانت طفرة التضخم أثناء التعافي من الجائحة بمثابة مفاجأة. وتضمن العوامل الأساسية الدافعة للتضخم اضطرابات سلاسل الإمداد، وارتفاع أسعار الطاقة عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، والتحفيز النقدي والمالي الهائل الذي استحث الإنفاق على المساكن والسلع المعمرة. وتجاوز التضخم 6% في أكثر من أربعة أخماس اقتصادات العالم، بينما أدت زيادات الأسعار واسعة النطاق إلى رفع التوقعات بشأن زيادات أخرى إلى مستويات مرتفعة قياسا على عدة عقود سابقة.

واستجابت البنوك المركزية في الأسواق الصاعدة بتشديد حاد السياسة للسياسة النقدية على نحو حاد بدءاً من عام 2021، وحذت حذوها البنوك المركزية النظيرة في الاقتصادات المتقدمة. وأدى هذا إلى تشديد الأوضاع المالية على مستوى العالم حتى نهاية خريف العام الماضي. ونتيجة لذلك، يُتوقع الآن أن يتباطأ النمو الاقتصادي العالمي هذا العام، مع تباين الآراء بشأن مدى أرجحية أن يتطلب الأمر ارتفاع البطالة لتهدئة أسواق العمل الساخنة.

تفاؤل المستثمرين

غير أنه منذ نهاية العام الماضي، سجلت الأسواق المالية انتعاشا قويا على أثر تراجع أسعار الطاقة ودلائل تشير إلى احتمال وصول التضخم إلى مستوى الذروة. وفي بعض الاقتصادات، هبطت أسعار السلع المدرجة في مقاييس التضخم الأساسي، مثل السيارات والأثاث.

هذه الدلائل على التقدم في تخفيض ضغوط التضخم في ظل استمرار قوة الطلب في أسواق العمل كانت سببا للاعتقاد بأن صناع السياسات ربما يكونون قد نجحوا في ترويض التضخم بتكلفة بسيطة على النمو الاقتصادي، وهو ما يسمى بالهبوط الاقتصادي الهادئ.

وفي الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، عادت مقاييس التضخم القائمة على السوق لعام قادم إلى مستوى قريب من هدف البنوك المركزية البالغ 2% بعد أن سجلت 6% في الربيع الماضي. وشهدت المقاييس انخفاضات مماثلة بالنسبة لعدة اقتصادات متقدمة أخرى. وفي الاقتصادات الصاعدة، تراجعت أيضا هذه المقاييس القائمة على السوق لعام قادم، وإن كان بوتيرة أبطأ.

التيسير المتوقع

واقترنت هذه الانخفاضات المأمولة في معدل التضخم بتزايد التوقعات بأن البنوك المركزية لن تتوقف فقط عن تشديد السياسة النقدية قريبا، إنما ستقوم أيضا بتخفيض أسعار الفائدة بسرعة نسبية. وفي كثير من الاقتصادات، أسفر هذا عن تراجع العائد على سندات الدين الحكومي طويل الأجل إلى أقل من عائد السندات الأقصر أجلا. وغالبا ما يكون هذا الانعكاس في منحنى العائد سابقا على فترات الركود، كما توضح السوابق التاريخية. والواقع أن تقييمات المحللين تشير إلى مخاطر ركود كبيرة في كثير من الاقتصادات، غير أن المتوقع هو أن حالات الركود، إذا وقعت، ستكون معتدلة. 

وقد أدى تنامي التوقعات بانخفاض أسعار الفائدة وتباطؤ الاقتصاد على نحو سطحي فحسب إلى الدفع في اتجاه تيسير كبير للأوضاع المالية في الشهور الأخيرة – رغم استمرار رفع البنوك المركزية لأسعار الفائدة. وعكست الأسواق هذا المشهد الحميد نسبيا، فشهدت أسواق البورصة صعودا سعريا، وضاقت كثيرا فروق العائد على السندات مقارنةً بالسندات القياسية.

معضلة أمام البنوك المركزية

هذه الأوضاع المالية الميسورة أثناء دورة تشديد السياسة النقدية من جانب البنوك المركزية تخلق معضلة أمام صناع السياسات.

فمن ناحية، تصدر الأسواق المالية إشارة لاحتمال تراجع التضخم دون زيادات ملموسة في البطالة. ويمكن أن يعتنق صناع السياسات هذه الرؤية، والمصادقة فعليا على تيسير الأوضاع المالية. ويرى هذا الرأي كثير من المراقبين الذين يشعرون بالقلق من أن تُبالغ البنوك المركزية في حماسها لتشديد السياسة النقدية – وتتسبب في هبوط اقتصادي مؤلم بلا داع.

وبدلا من ذلك، يمكن للبنوك المركزية رفض تفاؤل المستثمرين، مؤكدة على المخاطر التي تهدد باستمرار الضغوط التضخمية لفترة أطول من المتوقع. ويتطلب منهج إدارة المخاطر هذا فرض أسعار فائدة تقييدية لفترة أطول، إلى أن تظهر أدلة ملموسة على انخفاض التضخم بشكل مستمر.

وبينما يمكن أن يؤدي ذلك إلى إعادة تسعير مسار السياسة والأصول الخطرة في الأسواق المالية – مما يمكن أن يتسبب في هبوط أسعار الأسهم واتساع فروق العائد على السندات مقارنةً بالسندات القياسية – فإن هناك ثلاثة أسباب تقوم عليه الحاجة إلى هذا المنهج من أجل ضمان استقرار الأسعار.

·      يوضح التاريخ أن التضخم المرتفع غالبا ما يكون متشبثا بالارتفاع – وقد يواصل مساره الصاعد دون توقف – ما لم تُتَّخذ إجراءات قوية وحاسمة على صعيد السياسة النقدية لتخفيضه.

·      رغم أن تضخم السلع قد تراجع، فإنه يبدو من غير المرجح حدوث الشيء نفسه مع الخدمات دون أن تهدأ سوق العمل بدرجة ملموسة. ومن الضروري أن تتجنب البنوك المركزية الخطأ في قراءة الانخفاضات الحادة في أسعار السلع والقيام بتيسير السياسة قبل حدوث تراجع ملحوظ في تضخم الخدمات وفي الأجور، اللذين يتعدلان ببطء أكبر.

·      وتشير التجربة إلى أن الفترات الممتدة من الارتفاع السعري السريع تجعل توقعات التضخم أكثر عرضة للانفلات عن المستوى المستهدف حيث يزداد رسوخ هذه الحالة الذهنية الداعمة للتضخم في سلوك الأسر والشركات.

صناع السياسات يجب أن يثابروا على الدرب

وينبغي للبنوك المركزية أن تفصح عن الحاجة المرجحة للحفاظ على أسعار فائدة أعلى لفترة أطول إلى أن تظهر أدلة على عودة التضخم – بما في ذلك الأجور وأسعار الخدمات – إلى المستوى المستهدف بصورة مستدامة.

ومن المرجح أن يواجه صناع السياسات ضغوطا لتيسير السياسة النقدية مع ارتفاع البطالة واستمرار هبوط التضخم. ويمكن أن تكون هذه التحديات بالغة الحدة في حالة اقتصادات الأسواق الصاعدة.

ولا شك أن هذه فترة غير عادية يتأثر فيها التضخم بالعديد من العوامل الخاصة، ومن الممكن أن ينخفض التضخم بأسرع مما يتصوره صناع السياسات. غير أن التيسير السابق لأوانه يمكن أن يتسبب في عودة التضخم الحاد بمجرد تعافي النشاط، مما يترك البلدان عرضة لمزيد من الصدمات التي يمكن أن تُخْرِج التوقعات التضخمية عن نطاقها المستهدف. ومن ثم، فمن الضروري أن يظل صناع السياسات مثابرين على الدرب وأن يركزوا على إعادة التضخم إلى مستواه المستهدف دون إبطاء.