5 min (1403 words) Read

تنزيل ملف PDF

علينا رأب الصدوع المتزايدة وإعادة تنشيط تعددية الأطراف لخدمة المصالح الجماعية ومصالح البلدان بمزيد من الفعالية

الجائحة، والحرب في أوكرانيا، وتهديد الأمن الغذائي، وارتفاع مستويات الفقر العالمي من جديد. موجات الحر، والجفاف، وغيرها من الظواهر الجوية المتطرفة. هذه ليست صدمات عشوائية، أو عاصفة كاملة بالمعنى التقليدي، أي مجموعة أحداث سيئة تحدث لمرة واحدة، بل إننا نواجه مجموعة من حالات انعدام الأمن الهيكلية الدائمة – الجغرافية-السياسية، والاقتصادية، والوجودية – تعزز كل منها الأخرى. لقد بتنا داخل عاصفة هوجاء ممتدة.

ولا يمكننا الاكتفاء برغبة التخلص من حالات انعدام الأمن هذه أو بتمني عدم ارتداد المشكلات التي تشغل جزءا من العالم إلى أجزاء أخرى. وقد جعلتنا جائحة كوفيد-19 وتحوراتها المتكررة نعي هذه الحقيقة، لقاء تكاليف بشرية واقتصادية هائلة في كل مكان. ولا يمكننا استعادة حالة التفاؤل إلا بإدراك مدى خطورة التهديدات التي نواجهها وطبيعتها الجماعية، وتنظيم أنفسنا لمواجهتها بمزيد من الفعالية.

أولا، تعد مخاطر تصاعد الصراع الجغرافي-السياسي أكبر مما كانت عليه لأكثر من ثلاثة عقود. ودائما ما كانت الهشاشة هي سمة نظام القواعد والمعايير العالمية الذي يهدف إلى الحفاظ على السلام وسلامة أراضي الدول القومية. لكن الغزو غير المبرر لأوكرانيا ليس مجرد تصدع آخر في النظام. فعواقبه تتجاوز عواقب أي غزو آخر، وبطرق ربما تكون كارثية.

ثانيا، نحن نواجه احتمالات حدوث كساد تضخمي، في ظل ارتفاع التضخم وتوقف النمو لفترة من الزمن. وما كان ينظر إليه الكثيرون منذ عام مضى على أنه سيناريو غير محتمل "لمخاطر طرف المنحنى" أصبح الآن سيناريو محتملا. وتواجه البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة مهمة أكثر تعقيدا من أي وقت مضى في الذاكرة الحاضرة، كما تتضاءل فرصها في كبح التضخم مع تحقيق هبوط هادئ في النمو الاقتصادي. وقد زادت صعوبة المهمة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات التي أحدثتها في أسواق الطاقة والغذاء والسلع الأولية الأخرى ذات الأهمية البالغة.

وعندما يُكتب تاريخ هذا العقد، من غير المرجح أن يُنظر إلى التضخم في الاقتصادات المتقدمة باعتباره أخطر مشكلاته – إذ لا يمكن بالتأكيد مقارنته بآثار العسر المالي في العالم النامي أو النظام الدولي الضعيف. ولكن التضخم المرتفع لفترة طويلة سيؤدي إلى تآكل خطير في رأس المال السياسي الذي تحتاجه البلدان لمواجهة تحدياتنا الأكبر، محليا وعالميا، بما في ذلك أزمة المناخ. وقد يصيب العالم بانتكاسة بطرق لا تستطيع النماذج الاقتصادية التنبؤ بها. وتحديدا، سيؤدي ارتفاع تكلفة المعيشة إلى إضعاف ثقة السكان الذين أصبحوا الآن أكبر سنا مما كانوا عليه في سبعينات القرن الماضي، عندما شهدت الاقتصادات آخر نوبات التضخم المرتفع.

انعدام الرؤية

ثالثا، تتدهور المشاعات الوجودية بوتيرة متسارعة. وتتزايد التهديدات التي تتعرض لها حياة الناس وأرزاقهم في كل مكان من جراء تغير المناخ، وتراجع التنوع البيولوجي، وندرة المياه، وتلوث المحيطات، وازدحام الفضاء الخارجي على نحو خطير، وانتشار الأمراض المعدية. وعلينا التصدي لهذه التهديدات بالتوازي لأن العلم واضح بشأن كيفية تفاعلها. ويؤدي الاحترار العالمي وتدهور الغلاف الحيوي إلى حدوث تغيرات كبيرة في حياة الحيوانات، مع سرعة انتقال عدد لا حصر له من مسببات الأمراض الجديدة والعائدة للظهور بين الكائنات الحية وفي المجتمعات البشرية. كذلك تعد الجوائح المتكررة جزءا لا يتجزأ من النظام. ومع ذلك، لا يزال العالم يتجه بلا رؤية نحو الجائحة القادمة بعد مرور عامين على بداية جائحة كوفيد-19. ويحذر العلماء من أنها قد تأتي في أي وقت وقد تكون أكثر فتكا.

والحقيقة التي يصعب قبولها على المدى القصير هي أن العالم سيضطر إلى الاعتماد بدرجة أكبر على الوقود الأحفوري، بما في ذلك الفحم، لضمان أمن الطاقة والحيلولة دون حدوث ارتفاع حاد في أسعار الطاقة. لكن ذلك يعني أيضا أنه يجب علينا مضاعفة الجهود لتحقيق التحول طويل الأجل نحو مستقبل الطاقة منخفضة الكربون. وما نحتاج إليه هو أطر واضحة للسياسات – بما في ذلك وضع جداول زمنية يمكن التنبؤ بها لتسعير الكربون وإلغاء دعم الوقود الأحفوري، وتقديم مساعدة مباشرة للفئات الضعيفة – لتحقيق هذا التحول الضروري مع الحفاظ على أمن الطاقة.

رابعا، يجب أن نواجه خطر التباعد المتزايد، داخل البلدان والأهم بين مختلف البلدان. فارتفاع أسعار الأغذية الأساسية وعلف الماشية والأسمدة والطاقة يتسبب في إلحاق الضرر الأكبر بالبلدان الأفقر، وهي الأشد تضررا بالفعل من تأثير الظواهر الجوية المتطرفة – وخاصة على أفقر سكانها. فحكومات هذه البلدان لديها طاقة مالية محدودة لموازنة أثر هذه الصدمات. كذلك فإن أكثر من نصف هذه البلدان إما بلغ بالفعل مرحلة المديونية الحرجة أو على وشك بلوغها. وفي مواجهة هذه القيود المباشرة، فإننا نجازف بالإهمال المستمر لتحسين التعليم والرعاية الصحية، مما يسفر عن عواقب وخيمة على المدى الأطول وعلى مستوى العالم. وحتى قبل كوفيد-19، لم يكن أكثر من نصف الأطفال في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط قد تمكن من الإلمام الأساسي بالقراءة والكتابة في سن العاشرة، وتشير التقديرات إلى أن النسبة الآن تصل إلى 70%. وكانت خسائر التعلم التي لحقت بالفتيات تحديدا كبيرة أثناء الجائحة، حيث لم يعد الكثير منهن إلى المدرسة وتم دفع الملايين نحو الزواج المبكر.

والآن هناك احتمال حقيقي أن تتراجع المكاسب الاقتصادية والاجتماعية التي حققها العديد من هذه البلدان النامية بشق الأنفس في العقدين الماضيين. وقد يؤدي ذلك إلى ندوب دائمة في الأجيال الشابة، ومزيد من عدم تمكين المرأة، وحروب أهلية، وصراعات بين الدول المجاورة، وكل منها سيزيد من صعوبة معالجة التحديات العالمية الأكثر إلحاحا.

تمويل السلع العامة العالمية

يجب أن نتصدى لهذه التهديدات، ليس على أساس السيناريوهات التي تعكس آمالنا ولكن من خلال تقييم واقعي للخطأ الذي يمكن أن يحدث على الأرجح. ولم يكن كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا ضمن ما يُطلق عليه أحداث "البجعة السوداء". ورغم أن الحجم الكامل لهاتين المأساتين ربما لم يتم توقعه، فقد تم رصد المخاطر بوضوح لبعض الوقت.

ويجب أن نجعل الاستعداد للتهديدات، المعروفة أو غير المعروفة، في صلب السياسة العامة والتفكير الجماعي، تماما مثلما تعلمت الأجهزة التنظيمية من الأزمة المالية العالمية وسعت إلى تقوية الهوامش الوقائية المالية قبل الأزمة القادمة.

وعلينا أن نستثمر عند مستويات أعلى بكثير، ولفترة طويلة، في السلع العامة اللازمة لمعالجة المشكلات العالمية الأكثر إلحاحا. ويجب أن نعوض على مدى سنوات عديدة نقص الاستثمار في مجموعة واسعة من المجالات الضرورية – بدءا من المياه النظيفة والمدرسين المدربين في الاقتصادات النامية وحتى النهوض بالبنية التحتية اللوجستية المتقادمة في بعض الاقتصادات الأكثر تقدما. ولكننا نملك الفرصة الآن لتحفيز موجة جديدة من الابتكارات لمواجهة تحديات المشاعات العالمية، بدءا من مواد البناء منخفضة الكربون، والبطاريات المتطورة، والمحلل الكهربائي للهيدروجين، إلى اللقاحات المركبة التي تهدف إلى الوقاية من مجموعة من مسببات الأمراض في وقت واحد.

ولتمويل هذه الاستثمارات، علينا أن نشرع في تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص على نطاق لم يتم اعتماده من قبل. فلن تكون موارد القطاع العام قادرة على تلبية هذه الاحتياجات بمفردها. فتكاليف خدمة الدين ستتطلب تخصيص حصة متزايدة من الإيرادات الحكومية. وقد أعلنت حكومات العالم المتقدم أيضا نهاية "ثمار السلام" التي دفعت العديد من هذه الحكومات إلى خفض الإنفاق على الدفاع على مدى عدة عقود.

يجب أن نجعل الاستعداد للتهديدات، المعروفة أو غير المعروفة، في صلب السياسة العامة والتفكير الجماعي.

وعلينا الآن إعادة توجيه التمويل العام، إلى جانب الأموال الخيرية حيثما أمكن، نحو تعبئة الاستثمار الخاص لتلبية احتياجات المشاعات العالمية. وسيتعين على العالم استثمار ما يتراوح بين 100 إلى 150 تريليون دولار تقريبا على مدار الثلاثين عاما القادمة للوصول بصافي انبعاثات الكربون إلى الصفر. وقد تبدو تلك مهمة صعبة. غير أن التكلفة السنوية التي تتراوح بين 3 و5 تريليونات دولار لا تشكل نسبة كبيرة في أسواق رأس المال العالمية التي يبلغ حجمها 100 تريليون دولار، والتي تنمو بما يعادل هذا المبلغ تقريبا كل عام.

ولا يوجد نقص في التمويل الخاص وتمويل السوق. غير أن توجيهه لتلبية احتياجات المشاعات يتطلب وجود قطاع عام يعمل على نحو استباقي، وأطر جيدة التصميم لاقتسام المخاطر مع القطاع الخاص. إن السياسات والمعايير الخاصة بالتوسع السريع في نشر تكنولوجيات الطاقة النظيفة التي أثبتت جدواها بالفعل، وتحفيز الاستثمارات واسعة النطاق في البنية التحتية مثل شبكات النقل والتوزيع الذكية، ستكون ضرورية لتحقيق تخفيضات كبيرة في الانبعاثات بحلول عام 2030. ومع ذلك فإن ما يقرب من نصف التكنولوجيات اللازمة للوصول بصافي انبعاثات الكربون إلى الصفر بحلول منتصف القرن الحالي لا يزال يجري إعداد النموذج الأولي لها. ويجب على الحكومات أن تكون لها مصلحة في هذه العملية للاستفادة من دور القطاع الخاص في أنشطة البحث والتطوير، وتشجيع المشروعات التوضيحية، للتعجيل من تطوير هذه التكنولوجيات وطرحها في السوق. وإلى جانب الوصول بصافي انبعاثات الكربون إلى الصفر في الوقت المحدد، ينبغي أن تهدف هذه التكنولوجيات إلى تحفيز الصناعات الجديدة الرئيسية وفرص العمل.

لا يمكننا مواجهة تحديات هذه الحقبة الجديدة بدون زيادة فعالية الجهود متعددة الأطراف.

وعادة ما تكون العائدات الاجتماعية لحماية المشاعات العالمية أكبر بكثير من العائدات الخاصة، مما يشكل حجة قوية تدعو القطاع العام لاقتسام المخاطر مع مستثمري القطاع الخاص. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك تطوير وإنتاج لقاحات مضادة للجائحة القادمة على نطاق واسع. ومن شأن إطلاق مشروع لتحصين سكان العالم حتى قبل ستة أشهر أن يوفر تريليونات الدولارات وينقذ أرواحا لا حصر لها.

تفعيل تعددية الأطراف

ومع ذلك، لا يمكننا مواجهة تحديات هذه الحقبة الجديدة بدون زيادة فعالية الجهود متعددة الأطراف. ويحدد تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، جدول أعمالنا المشترك، رؤية جريئة وذات مصداقية للجهود متعددة الأطراف: وهي رؤية أكثر شمولا لأصوات مختلفة، تقوم على تعزيز الروابط بين الأطراف، وتحقيق النتائج بمزيد من الفعالية وبالتالي زيادة الثقة في هذه الجهود.

ولا يتطلب الأمر إعادة بناء العمل متعدد الأطراف قلبا وقالبا أو بناء مؤسسات جديدة بالكامل. ولكن علينا القيام بتحرك عاجل لإعادة توجيه المؤسسات القائمة لعصر جديد، وابتكار آليات جديدة للتعاون الشبكي بين المؤسسات متعددة الأطراف والمؤسسات الأخرى، بما في ذلك المؤسسات غير الحكومية، وتجميع الموارد بطرق يمكن أن تحقق المصالح الجماعية والمصالح الذاتية للبلدان بمزيد من الفعالية.

أولا، نحن بحاجة إلى فكر جديد بشأن المشاعات العالمية. ويجب أن ننظر إلى الأموال التي يتم إنفاقها على تقوية هذه المشاعات ليس باعتبارها مساعدة لبقية العالم، بل باعتبارها استثمارا يفيد البلدان الغنية والفقيرة باستمرار. وكما أوضح الفريق المستقل رفيع المستوى التابع لمجموعة العشرين المعني بتمويل التأمين ضد الجوائح، فإن الاستثمار الدولي الإضافي المطلوب لسد ثغرات التأهب العالمية الرئيسية، مع التوزيع العادل للمساهمات بين البلدان، لن يكون في متناول الجميع فحسب، بل سيمكننا أيضا من تجنب التكاليف التي قد تكون أكبر بمئات المرات إذا ما فشلنا في العمل معا لمنع حدوث جائحة أخرى. إن العزوف منذ وقت طويل عن الاستثمار الجماعي في التأهب للجوائح يعكس قصر النظر السياسي والافتقار إلى الحيطة المالية، وهو ما يجب أن نتغلب عليه على وجه السرعة.

تحديث نظام بريتون وودز

ثانيا، علينا إعادة تحديد الغرض من مؤسستي بريتون وودز. فقد تم إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي منذ ما يقرب من 80 عاما للمساعدة في حل المشكلات التي تواجهها البلدان كل على حدة، في وقت كانت فيه معظم الأسواق المالية صغيرة وغير مترابطة. ويجب تحديث مهام تلك المؤسسات لمواكبة عصر أصبحت فيه الأزمات المالية ذات طبيعة عالمية غالبا، ويشكل فيه تدهور المشاعات العالمية تحديا اقتصاديا متزايدا لجميع البلدان، وخاصة في العالم النامي.

بجب زيادة موارد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وزيادة الصلاحيات الممنوحة لهما من المساهمين للقيام بتدخلات أكبر وأسرع في هذا العصر العالمي الجديد. ويجب تكليف الصندوق بمهمة إدارة شبكة عالمية أقوى وأكثر فعالية للأمان المالي، وهو أمر أشبه بكيفية قيام البنوك المركزية الكبرى بزيادة الاستقرار في الداخل عند حدوث أزمة. ويجب وضع المشاعات العالمية في صلب المهام التي يُكَلَّف بها البنك الدولي، إلى جانب مهمة التخفيف من حدة الفقر. كذلك يجب أن يقوم البنك بدور أكثر جرأة كمضاعِف لتمويل التنمية. ويجب أن يعتمد بشكل أكثر جرأة على تعبئة رؤوس الأموال الخاصة، باستخدام ضمانات المخاطر وأدوات تعزيز الائتمان الأخرى بدلا من الإقراض المباشر في ميزانيته العمومية. كذلك يجب أن يعمل البنك والصندوق على المشاركة في العمليات مع المؤسسات المالية الدولية الأخرى وشركاء التنمية للتغلب على مشكلة تشتت الجهود في الوقت الراهن، وزيادة التقارب حول المعايير الأساسية مثل استدامة القدرة على تحمل الدين، والمشتريات، وتحقيق تأثير إنمائي أكبر.

ثالثا، علينا الحفاظ على المشاعات الرقمية. وجدول الأعمال الإيجابي واضح. وعلينا بناء البنية التحتية وأطر السياسات اللازمة لسد الفجوة الرقمية وبذل جهود جادة لسد فجوات المعرفة الرقمية في كل مجتمع. لكن يجب علينا أيضا بناء حواجز حماية لجعل شبكة الإنترنت شبكة آمنة من أجل الديمقراطية، ومواءمة المنصات الإلكترونية مع المصلحة العامة. وليس لدينا حتى الآن قواعد أو معايير عالمية لمواجهة المعلومات المضللة على النطاق الصناعي أو الجهود المنهجية لنشر الشعور بعدم الثقة. ويعد قانون الخدمات الرقمية الجديد الذي اعتمده الاتحاد الأوروبي، والذي يهدف إلى إجبار المنصات الإلكترونية على حذف المعلومات الخاطئة وخطاب الكراهية، خطوة كبيرة إلى الأمام. ويتم اتباع مناهج مماثلة في بلدان مثل المملكة المتحدة وسنغافورة وأستراليا.

وعلينا أيضا مواجهة التحدي المتزايد المتعلق بالهجمات الإلكترونية وتأثيرها على السلم والأمن الدوليين. وقد اعتمدت البلدان مجموعة من معايير وقواعد السلوك المسؤول للدول في الفضاء السيبراني. ويتمثل التحدي في تنفيذها بطريقة مستدامة، حتى في لحظات التوتر الجغرافي-السياسي.

تجنب الاستقطاب

رابعا، إن وضع نظام متعدد الأطراف أكثر فعالية يتطلب تفاهما استراتيجيا جديدا بين الدول الكبرى، والأهم بين الولايات المتحدة والصين، حيث يشهد العالم تحولات لا يمكن تداركها نحو تعدد الأقطاب. ويجب صياغة هذا التفاهم الجديد من خلال المصالح المشتركة الشاملة – في مجالات الأمن المناخي والتأمين ضد الجوائح، والسلام، وتجنب الأزمات المالية العالمية. وسيتطلب هذا التفاهم مهارة جغرافية-استراتيجية كبيرة، إلى جانب استراتيجيات أكثر فعالية لخلق وظائف جيدة وفرص واسعة النطاق في الداخل، وذلك لإعادة بناء الأسس السياسية المحلية للانفتاح الاقتصادي.

وعلينا تحديث قواعد العمل لضمان عدالة المنافسة وصلابة سلاسل الإمداد بدون التراجع عن النظام المفتوح والمتكامل الضروري لكل بلد من حيث معدل الابتكار والنمو والأمن طويل الأمد. وتؤدي جائحة كوفيد-19 إلى التعجيل بتحرك الشركات نحو زيادة تنويع سلاسل الإمداد العالمية، مما يعود بالنفع، في واقع الأمر، على العديد من الاقتصادات النامية، لكن المصادر العالمية لا تزال اليوم تحمل الأهمية التي كانت عليها قبل الجائحة. ولا تزال التجارة بين الولايات المتحدة والصين بالغة الفائدة لكل منهما.

ولا يمكننا أن نتوهم أن وجود نظام عالمي متكامل، بما له من روابط اقتصادية عميقة بين البلدان، سيضمن لنا السلام بمفرده. لكن الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين القوى الكبرى، باستثناء القطاعات التي لها انعكاسات تمس الأمن القومي، سيجعل احتمالات الصراع أقل مما هي عليه في عالم يتزايد فيه تباعد الأسواق أو التكنولوجيات أو أنظمة الدفع أو البيانات.

وعلينا أن نتحلى ببعد النظر. ويجب أن تتمثل أهم أولوياتنا في استيعاب عالم متعدد الأقطاب دون أن يصبح أكثر استقطابا. فمن شأن وجود عالم أكثر استقطابا وتشتتا أن يؤدي في نهاية المطاف إلى إضعاف جميع البلدان، بما في ذلك البلدان الكبرى، ويجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل تحقيق المصالح التي تشترك فيها البشرية جمعاء: في عالم آمن ومستدام ومزدهر، يشمل الجميع ويحقق لهم الإنصاف.

ثارمان ﺸﺎﻨﻤوﻏﺎراﺘﻨﺎم هو أحد كبار الوزراء في سنغافورة. وهو عضو المجلس الاستشاري رفيع المستوى المعني بالتعددية الفعالة التابع للأمين العام للأمم المتحدة، والرئيس المشارك للجنة العالمية المعنية باقتصاديات المياه التي تم إنشاؤها مؤخرا. وكان رئيس فريق الشخصيات البارزة المعني بالحوكمة المالية العالمية التابع لمجموعة العشرين، كما كان الرئيس المشارك للفريق المستقل رفيع المستوى المعني بتمويل التأمين ضد الجوائح التابع لمجموعة العشرين.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.