تعزيز الاستدامة المالية في العالم العربي كلمة السيدة كريستالينا غورغييفا، مدير عام صندوق النقد الدولي المنتدى السابع للمالية العامة في الدول العربية المنعقد في دبي بتاريخ 12 فبراير 2023

12 فبراير 2023

الحضور الكرام، السلام عليكم.

يسرني أن أكون معكم اليوم في منتدانا السابع للمالية العامة للدول العربية. وأتقدم بالشكر إلىمعالي محمد بن هادي الحسيني (وزير الدولة للشؤون المالية) و الدكتور الحميدي وفريقه في صندوق النقد العربي على استضافتنا.

وأود أن أعرب عن تقديرنا للتعاون الممتاز على مر السنوات. فقد استطعنا سويا أن نقطع شوطا طويلا، وأصبحت شراكتنا مع المنطقة أكثر قوة. ويمثل عام 2023 لحظة فارقة: فبعد مرور عشرين عاما على استضافة دبي لاجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي السنوية، سنشهد انعقاد الاجتماعات السنوية في مراكش خلال شهر أكتوبر.

وخلال هذه السنوات، حقق العالم العربي تقدما هائلا، ولعب دور دور قيادي حقيقي على مستوى العالم. وأذكر هنا القمة العالمية للحكومات التي تبدأ فعالياتها غدا، واستضافة المنطقة لمؤتمر الدول الأطراف للعام الثاني على التوالي.

ورغم النجاحات، تشهد المنطقة – على غرار مناطق كثيرة حول العالم – تحديات هائلة في الوقت الذي نواجه فيه أزمات عديدة.

واليوم، أود التركيز على إحدى القضايا الإقليمية الأكثر إلحاحا، وهي كيفية تعزيز صلابة الموارد العامة لحماية شعوبنا واقتصاداتنا ومناخنا.

1- الآفاق الاقتصادية

لنبدأ بالآفاق الاقتصادية العالمية والإقليمية. [وقد ناقشتم بالفعل التطورات الاقتصادية الكلية على مستوى المنطقة. لذلك سأعرض نقاط قليلة فحسب.]

لا يزال النمو العالمي ضعيفا، لكنه ربما يشهد نقطة تحول في الوقت الحالي. فبعدما ارتفع النمو بنسبة 3,4% في العام الماضي، نراه يتراجع حاليا إلى 2,9% خلال عام 2023، ليسجل تحسنا طفيفا في عام 2024 حيث يصل إلى 3,1%. وقد أعلنا أحدث تنبؤاتنا منذ أسبوعين، وهي وإن كانت أقل قتامة مقارنة بأكتوبر، فإنها لا تزال تشير إلى تراجع النمو، كما تظل مكافحة التضخم من الأولويات في عام 2023.

وعلى الجانب الإيجابي، نشهد حاليا تراجع التضخم من 8,8% في عام 2022 إلى 6,6% هذا العام و4,3% في عام 2024 – وإن كان سيظل متجاوزا مستويات ما قبل الجائحة في معظم البلدان. ومن العوامل المساعدة إعادة فتح الصين، وصلابة أسواق العمل والإنفاق الاستهلاكي في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وبينما تبدو الصورة واعدة، لا تزال التطورات السلبية هي الكفة الراجحة في ميزان المخاطر . فمن الممكن تعطل مسيرة التعافي في الصين. وقد يظل التضخم متجاوزا للتوقعات، مما سيقتضي المزيد من التشديد النقدي – الذي قد يؤدي إلى عمليات إعادة تسعير مفاجئة في الأسواق المالية. وربما تتصاعد الحرب الروسية في أوكرانيا مخلفة اقتصادا عالميا أكثر تفككا.

ومع تباطؤ الاقتصاد العالمي، يُتوقع تراجع النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أيضا - من 5,4% في عام 2022 إلى 3,2% هذا العام، قبل أن يرتفع إلى 3,5% في عام 2024. وفي البلدان المصدرة للنفط، قد يؤدي تخفيض الإنتاج وفق اتفاقية أوبك+ إلى تراجع إيرادات النفط الكلية. وستتواصل التحديات في البلدان المستوردة للنفط. ويمثل الدين العام مصدر قلق كبير، حيث تواجه عدة اقتصادات في المنطقة ارتفاعا في نسب الدين إلى إجمالي الناتج المحلي – التي تقارب 90% في بعض الاقتصادات.

وللعام الرابع على التوالي، نتوقع أن يتجاوز التضخم في المنطقة 10% - وهو ما يزيد على المتوسط العالمي . وفي اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات منخفضة الدخل في المنطقة، يعكس ذلك التداعيات الممتدة لارتفاع أسعار الغذاء، وانخفاض أسعار الصرف في بعض الحالات. وحسب توقعاتنا، يتراجع التضخم تدريجيا مع استقرار أسعار السلع الأولية وتحقق الأثر المرجو من تشديد السياسة النقدية وسياسة المالية العامة. ونتوقع استمرار بلدان مجلس التعاون الخليجي في احتواء التضخم.

وهناك عدة مخاطر تستدعي القلق في المنطقة أيضا. فالحرب الروسية في أوكرانيا والكوارث المناخية قد تؤدي إلى تفاقم عجز الغذاء في البلدان الأكثر عرضة للمخاطر. ويُضاف إلى ذلك الارتفاع المزمن في معدلات البطالة، لا سيما بين الشباب، مما يضعنا أمام خطر هائل يهدد الاستقرار الاجتماعي.

كذلك يمكن أن تؤدي زيادة تشديد الأوضاع المالية العالمية أو المحلية إلى ارتفاع تكلفة الاقتراض، بل ونقص التمويل في بعض الحالات. ومن شأن تأخر الإصلاحات المحلية الملحة أن يفرض عبئا على الآفاق الإقليمية والموارد الحكومية.

وكما ترون، فنحن نشهد عاما صعبا آخر. ولكن هناك أسبابا للتفاؤل. ولا تخلو جعبتنا من الحلول لجعله عاما أفضل!

وهنا، في المنطقة، بإمكاننا جميعا أن نستلهم الكثير من الروح الجماعية لأسود الأطلس المغاربة وإصرارهم في بطولة كأس العالم في قطر.

لذلك، اسمحوا لي أن ألقي الضوء علىثلاثة مبادئ يمكن للبلدان الاسترشاد بها في توظيف سياسات المالية العامة في بناء الصلابة، مع التركيز لاحقا على سبل التعاون من أجل تسديد الأهداف في مرمى القضايا التي لن يتسنى لنا مواجهتها إلا سويا.

2- بناء الصلابة من خلال سياسات المالية العامة

ويتمثل المبدأ الأول في وضع إطار قوي لإدارة سياسة المالية العامة والتعامل مع المخاطر المحيطة بها.

ففي عالم اليوم المعرض للصدمات الذي يكتنفه عدم اليقين، أصبحت إدارة سياسة المالية العامة أكثر أهمية، ولكن أكثر تعقيدا أيضا.

فلننظر إلى تقلبات أسعار الطاقة والغذاء في المنطقة – والتي تتطلب من الحكومات التدخل لحماية الفئات الضعيفة مع مواصلة خطط التنمية والاستثمارات. ويقتضي ذلك التخطيط الدقيق وتوافر الموارد اللازمة. وهذا ما يفعله المغرب من خلال إلغاء الدعم المكلف غير الموجه تدريجيا لصالح توفير الدعم الاجتماعي الذي يستهدف الفئات المستحقة. كذلك وضعت موريتانيا ركيزة مالية لمواجهة تقلبات إيرادات تصدير المعادن، كما رفعت أسعار الوقود بنسبة 30% من خلال تخفيض الدعم. وتعمل بعض البلدان المستوردة للطاقة على بناء احتياطياتها عندما ترتفع الأسعار استعدادا لمواجهة تقلبات أسعار النفط.

وعلى الحكومات أيضا إدارة العديد من المخاطر التي تهدد مالياتها العامة، بما في ذلك الناجمة عن الضمانات العامة وخسائر الشركات المملوكة للدولة، مما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الدين وتخفيضات حادة في النفقات الضرورية. وتعكف مصر حاليا على تعزيز الرقابة على هذه المخاطر للمساعدة في إدارتها.

وعلاوة على ذلك، تشهد عدة بلدان عربية تنفيذ أطر مالية عامة متوسطة الأجل تتسم بالمصداقية، وهي عامل أساسي في التخفيف من حدة المخاطر حال تحققها، كما تمكن الحكومات في الوقت نفسه من مواصلة أوجه الإنفاق الضرورية، والحفاظ على استقرار الدين، وبناء ثقة المستثمرين. ويساعد الصندوق بلدانه الأعضاء في وضع هذه الأطر، كما تساعد مجموعة أدوات إدارة مخاطر المالية العامة التي وضعها الصندوق في الكشف عن المخاطر، وقياس تكلفتها المحتملة، وتحديد الأولوية للتدابير اللازمة لمعالجتها.

أما المبدأ الثاني، فيتمثل في التخطيط والاستثمار على المدى الطويل لمواجهة تحديات المناخ.

فمن شمال إفريقيا إلى آسيا الوسطى، تبلغ مستويات الاحترار في المنطقة ضعف معدلها في باقي أنحاء العالم.

وبخلاف ضرورة الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في كل مكان، نحتاج إلى العمل عبر جبهات عديدة. فعلى سبيل المثال، يمثل الاستثمار في البنية التحتية المقاومة لتغير المناخ ونظم الإنذار المبكر عاملا أساسيا لتعزيز صلابة المنطقة. وينطبق ذلك أيضا على استثمارات الطاقة المتجددة، وجهود الحد من كثافة الكربون في مختلف اقتصادات المنطقة.

وقد أعلنت حكومات المنطقة عن احتياجات تمويلية متعددة السنوات بقيمة تتجاوز 750 مليار دولار أمريكي لاتخاذ هذه التدابير. وتعتمد تلبية هذه الاحتياجات على توفير بيئة مواتية للتمويل المناخي الخاص من خلال السياسات والحلول المالية السليمة.

وهنا أيضا يضطلع الصندوق بالدور المنوط به. فقد أصبح المناخ في صلب عملنا، ونتعاون حاليا مع شركائنا على إحراز التقدم المرجو في تنفيذ خطة تمويل العمل المناخي. ويتضمن ذلك الصندوق الاستئماني للصلابة والاستدامة الجديد الذي يهدف إلى تحسين السياسات وتوفير تمويل طويل الأجل بتكلفة معقولة لمواجهة التحديات المناخية. وهناك مناقشات جارية بالفعل مع مصر وبلدان أخرى للاستفادة من تمويل الصندوق الاستئماني للصلابة والاستدامة .

والمبدأ الثالث هو تعزيز الإيرادات الضريبية.

فالاستثمار في مستقبل أكثر صلابة مرهون بمواصلة تعزيز سياسات الضرائب والإدارة الضريبية. وقد أحرزت بلدان عديدة في المنطقة تقدما كبيرا في تعزيز قدراتها الضريبية. ومع ذلك، فإن متوسط نسبة الضرائب إلى إجمالي الناتج المحلي، ما عدا الإيرادات المرتبطة بالهيدروكربونات، لا يزال 11% تقريبا – أي أقل من نصف الحصيلة الممكنة.

ويمكن زيادة هذه النسبة من خلال تحسين تصميم السياسات الضريبية والإلغاء التدريجي للإعفاءات الضريبية المفتقرة للكفاءة. فعلى سبيل المثال، تعمل الجزائر حاليا على توسيع الوعاء الضريبي وتوزيع العبء الضريبي بعدالة أكبر. ونجحت البحرين والسعودية في جمع إيرادات هائلة من خلال تطبيق ضريبة القيمة المضافة. وفي الإمارات العربية المتحدة، يُتوقع تطبيق ضريبة دخل الشركات بصورة تدريجية.

والعامل الأساسي الآخر لزيادة الإيرادات هو تحديث الإدارة الضريبية، كما يمكن أن يساعد استخدام الأدوات الرقمية في هذا الصدد. وهذا ما قام به الأردن بالفعل، كما اتخذت وزارة المالية الفلسطينية إجراءات مماثلة. ويعكف الصومال أيضا على إصلاح السياسات والإدارة لإعادة بناء القدرات الضريبية. ويُتوقع أن تساهم مثل هذه الإجراءات في زيادة الإيرادات من خلال تحسين الامتثال، كما يمكن أن يساعد الصندوق من خلال برامج تنمية القدرات في تصميم هذه الإجراءات وتنفيذها.

3 - تعميق التعاون الدولي

غير أن بعض البلدان في الوقت الحالي لا تتيح سياساتها المحلية ببساطة حلا كافيا لمواجهة تحد عاجل آخر، ألا وهو عدم استمرارية القدرة على تحمل الدين.

فأعباء الدين الساحقة يصعب معها الإنفاق على الصحة والتعليم والبنية التحتية، ويقع ضررها الأكبر على الفئات الأكثر عرضة للمخاطر، ولكنها تمثل أيضا مشكلة مشتركة تواجه المنطقة والعالم أجمع.

وهنا تتجلى أهمية العمل الجماعي. فوجود العديد من دائني القطاعين العام والخاص يعني أن مشكلة عدم استمرارية القدرة على تحمل الدين يكمن حلها الأوحد في التعاون متعدد الأطراف.

واستجابة لأزمة كوفيد، أطلقت مجموعة العشرين برئاسة السعوديةمبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين في عام 2020. و تلى ذلك إعلان الإطار المشترك لمعالجة الديون. لكن مهمتنا لم تنته بعد رغم مرور ثلاث سنوات. فلا يزال علينا بذل المزيد من الجهود لجعل عملية معالجة الديون أكثر سرعة ووضوحا، وضمان استفادة جميع البلدان منها عند الحاجة.

وعلينا الآن دفع الكرة إلى الأمام صوب الهدف - ليس على صعيد الدين السيادي فحسب.

ولديكم بالفعل تاريخ قوي من التعاون داخل العالم العربي. فعلى مدار السنوات الخمس الماضية على سبيل المثال، أتاحت بلدان مجلس التعاون الخليجي 54 مليار دولار أمريكي لتمويل احتياجات الميزانية وميزان المدفوعات. وقدمت الدعم إلى البلدان منخفضة الدخل، والدول الهشة والمتأثرة بالصراعات في المنطقة، من خلال تخفيض الديون ودعم أمن الغذاء. ويتضمن ذلك الدعم الذي أعلنته مجموعة التنسيق العربية في العام الماضي بقيمة 10 مليارات دولار أمريكي. ويمكن للبلدان المانحة مواصلة دعم الاستقرار الاقتصادي والنمو على مستوى المنطقة من خلال المبادرات المتعددة الأطراف.

وقدم الصندوق ما يقرب من 20 مليار دولار أمريكي في صورة دعم مالي لبلدانه الأعضاء في المنطقة منذ بداية الجائحة. وتلقى العالم العربي أكثر من 37 مليار دولار أمريكي كجزء من عملية تخصيص حقوق السحب الخاصة الأكبر في تاريخ الصندوق عام 2021، والتي بلغت قيمتها 650 مليار دولار أمريكي.

ونعمل حاليا مع البلدان ذات الاحتياطيات الأكبر لتحويل هذه الأصول إلى البلدان الأكثر احتياجا. ويعني ذلك أيضا تحويل حقوق سحب خاصة إلى الصندوق الاستئماني للنمو والحد من الفقر لضمان استمراره في توفير قروض بسعر فائدة صفري للبلدان منخفضة الدخل.

ويفخر الصندوق بشراكته مع بلدانه الأعضاء في المنطقة. وسيساهم مكتبنا الجديد بالرياض في تعزيز مشاركتنا الإقليمية لصالح جميع شعوب العالم العربي – وهو مثال آخر على أوجه التعاون مع المنطقة ودورها القيادي.

وشكرا.

إدارة التواصل، صندوق النقد الدولي
قسم العلاقات الإعلامية

مسؤول الشؤون الصحفية: May

هاتف:7100-623 202 1+بريد إلكتروني: MEDIA@IMF.org