تشكل جائحة فيروس كورونا أزمة لا مثيل لها. فالشعور السائد يشبه الحرب، وهي حرب بالفعل من نواحٍ متعددة. فالناس يموتون. وممارسو المهن الطبية في الصفوف الأمامية. ومن يعملون في مجال الخدمات الضرورية، كتوزيع الغذاء، والتوصيل، والمرافق العامة، يعملون ساعات إضافية لدعم هذا الجهد. ثم هناك جنود مستترون: هؤلاء الذين يحاربون الوباء وهم محصورون في بيوتهم، غير قادرين على المساهمة في الإنتاج بشكل كامل.
وفي الحروب، يؤدي الإنفاق الضخم على التسليح إلى تحفيز النشاط الاقتصادي وتكفل المخزونات الخاصة توفير الخدمات الضرورية. وتبدو الأمور أكثر تعقيدا في هذه الأزمة، ولكن زيادة دور القطاع العام هو السمة المشتركة.
ورغم التبسيط المُخِل الذي قد يتسم به هذا التوصيف، يمكن القول بأن على السياسة أن بين عبارتين:
العبارة الأولى: الحرب: فالوباء على أشده. ولإنقاذ الأرواح، تُتَّخَذ إجراءات لتخفيف أثره تؤدي إلى تقلص النشاط الاقتصادي بشدة. وربما يُتوقع استمرار هذا الوضع لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر أو ستة أشهر.
العبارة الثانية: التعافي من فترة الحرب: وهنا سيكون الوباء قد تمت السيطرة عليه باللقاحات/الأدوية، والمناعة المجتمعية ("مناعة القطيع") الجزئية، واستمرار إجراءات احتواء الوباء وإن أصبحت أقل إرباكا. ومع رفع القيود، يعود الاقتصاد – ربما بشكل متردد – إلى أدائه الطبيعي.
وسيعتمد نجاح وتيرة التعافي اعتمادا كبيرا على السياسات التي تُتَّخَذ أثناء الأزمة. فإذا كفلت السياسات عدم فقدان العمالة لوظائفها، وعدم إجلاء مستأجري العقارات السكنية ومالكيها، وتجنب إفلاس الشركات، والحفاظ على شبكات الأعمال والتجارة، سيتحقق التعافي في وقت أقرب وبصورة أكثر سلاسة.
ويفرض هذا تحديا جسيما أمام الاقتصادات المتقدمة التي يسهل على حكوماتها تمويل زيادة استثنائية في النفقات بينما تتراجع إيراداتها. وهناك تحدٍ أكبر أمام الاقتصادات الصاعدة وذات الدخل المنخفض التي تواجه هروبا لرؤوس الأموال؛ فسيكون من الضروري أن تحصل على منح وتمويل من المجتمع العالمي (وهو موضوع نركز عليه في تدوينة لاحقة).
إجراءات السياسات في وقت الحرب
على خلاف فترات الهبوط الاقتصادي الأخرى، لم يأت هبوط الناتج في هذه الأزمة مدفوعا بالطلب: إنما هو نتيجة لا مفر منها لإجراءات الحد من انتشار المرض. ومن ثم فإن دور السياسة الاقتصادية لا يتمثل في تحفيز الطلب الكلي، على الأقل ليس الآن. إنما ينصب تركيز السياسة الاقتصادية على ثلاثة أهداف:
- ضمان عمل القطاعات الضرورية: يجب تعزيز الموارد اللازمة لإجراء اختبارات تشخيص كوفيد-19 وعلاجه. ويجب الحفاظ على انتظام الرعاية الصحية، وإنتاج الغذاء وتوزيعه، والبنية التحتية والمرافق الضرورية. بل إن ذلك قد ينطوي على إجراءات تَدَخُّلية من جانب الحكومة لتوفير الإمدادات الأساسية استنادا إلى صلاحيات وقت الحرب التي تعطي أولوية لإبرام عقود حكومية توفر المدخلات التي لا غنى عنها والسلع النهائية، أو تحويل الصناعات إلى احتياجات بعينها، أو إجراء عمليات تأميم انتقائية. ومما يوضح ذلك قيام فرنسا بمصادرة الكمامات الطبية في وقت مبكر من الأزمة، وقيام الولايات المتحدة بتفعيل "قانون الإنتاج الدفاعي" لضمان إنتاج المعدات الطبية اللازمة. وفي حالات النقص الشديد للإمدادات، قد يستدعي الأمر أيضا اتخاذ إجراءات لتحديد الأنصبة وفرض ضوابط على الأسعار وتطبيق قواعد لمكافحة الاكتناز.
- توفير موارد كافية للمتضررين من الأزمة: فالأسر التي تفقد دخلها بشكل مباشر أو غير مباشر نتيجة لإجراءات الاحتواء ستحتاج إلى دعم الحكومة. ومن المنتظر أن يساعد الدعم على بقاء الناس في بيوتهم مع الاحتفاظ بوظائفهم (الإجازات المرضية الممولة من الحكومة تحد من حركة الأفراد، ومن ثم تخفض مخاطر العدوى). وينبغي التوسع في إعانات البطالة وإطالة مدتها. ويلزم تقديم تحويلات نقدية تصل إلى المشتغلين بالأعمال الحرة وغير العاملين.
- الحيلولة دون الاضطراب الاقتصادي المفرط: فينبغي أن تحمي السياسات شبكة العلاقات بين العاملين وأصحاب الأعمال، والمنتجين والمستهلكين، والمقرضين والمقترضين، حتى يتسنى استئناف الأعمال بشكل جدي عندما ينحسر هذا الطارئ الطبي. وفي ظل هذه الظروف، سيؤدي إغلاق الشركات إلى فقدان الدراية الفنية في المؤسسات وإيقاف المشروعات الإنتاجية طويلة الأجل بشكل نهائي. وستؤدي الاضطرابات في القطاع المالي أيضا إلى توسيع نطاق العسر الاقتصادي. وينبغي للحكومات أن تقدم دعما استثنائيا للشركات الخاصة، بما في ذلك دعم الأجور، مع وضع شروط ملائمة لذلك. وقد وُضعت بالفعل برامج كبيرة للقروض والضمانات (مع تحمل دافعي الضرائب المخاطر النهائية) كما سهل الاتحاد الأوروبي عمليات ضخ رؤوس الأموال المباشرة في الشركات عن طريق تخفيف القواعد الحاكمة للمساعدات من الدولة. وإذا تفاقمت الأزمة، يمكن أن نتصور إقامة شركات قابضة كبيرة مملوكة للدولة أو توسيع القائم منها لتستحوذ على الشركات الخاصة المعسرة، مثلما حدث في الولايات المتحدة وأوروبا أثناء "الكساد الكبير".
ويبرر الطارئ الحالي زيادة تدخل القطاع العام ما دامت الظروف الاستثنائية مستمرة، لكنه يجب أن يتم بشفافية ومع تطبيق شروط واضحة لبطلانها تلقائيا.
وستتضمن السياسات الداعمة للأسر ومؤسسات الأعمال والقطاع المالي مزيجا من إجراءات السيولة (تقديم الائتمان، وتأجيل الالتزامات المالية) والإجراءات المتعلقة بالملاءة (عمليات تحويل الموارد الحقيقية؛ انظر الجدول).
وهناك عدة مفاضلات سيتعين التعامل معها. فإذا أُعطيت التحويلات أو القروض المدعمة لشركة كبيرة، ينبغي أن تكون مشروطة بالحفاظ على الوظائف ووضع قيود على مكافآت الرؤساء التنفيذيين، وتوزيعات الأرباح، وإعادة شراء الأسهم. وسيضمن الإفلاس أن يتحمل المساهمون بعض التكلفة، ولكنه سيتسبب أيضا في اضطراب اقتصادي كبير. وهناك خيار وسيط أمام الحكومة هو أن يكون لها حصص ملكية في الشركة. وقد أثبتت أزمات سابقة مدى فعالية الائتمان الذي يقدمه البنك المركزي (من خلال برامج شراء الأصول) أو غيره من مؤسسات الوساطة المالية التي تسيطر عليها الحكومة (من خلال القروض والضمانات)، وذلك إذا كانت السيولة هي المشكلة. وتظهر أسئلة عملية عديدة أيضا فيما يتعلق بتحديد ودعم المتضررين بشدة سواء منهم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة أو الأفراد المشتغلين بالعمل الحر. وبالنسبة لهؤلاء، ينبغي النظر في تقديم تحويلات مباشرة على أساس مدفوعاتهم الضريبية السابقة.
وينبغي دعم هذه السياسات المحلية بالحفاظ على التجارة والتعاون الدوليين، وهما أساسيان لهزيمة الجائحة وتعظيم فرص التعافي السريع. ومن الضروري الحد من حركة الأفراد لاحتواء هذا الوباء. ولكن على البلدان أن تقاوم النزعة الغريزية لإغلاق التجارة، وخاصة فيما يتعلق بأدوات الرعاية الصحية والتبادل المجاني للمعلومات العلمية.
من الاحتماء في الداخل إلى التعافي
وسيكون لتشجيع التعافي تحدياته الخاصة، بما في ذلك ارتفاع مستويات الدين العام وربما وضع أجزاء جديدة من الاقتصاد تحت سيطرة الحكومة. ولكن النجاح النسبي في المرحلة الأولى سيضمن قدرة السياسة الاقتصادية على العودة إلى أدائها الطبيعي. وستتزايد فعالية إجراءات المالية العامة الرامية إلى تعزيز الطلب مع زيادة عدد الأفراد الذين يسمح لهم بمغادرة منازلهم والعودة إلى العمل.
وكان المتوقع قبل الجائحة أن تظل أسعار الفائدة والتضخم منخفضين لفترة طويلة في معظم الاقتصادات المتقدمة. ومن المنتظر أن يؤدي منع الاضطرابات الكبيرة في سلاسل العرض إلى تجنب التضخم أثناء مرحلتي الطوارئ والتعافي. وإذا نجحت الإجراءات المتخذة لاحتواء انتشار الفيروس، ستكون الزيادة الضرورية في نسبة الدين العام كبيرة، ولكن من المرجح أن تظل أسعار الفائدة والطلب الكلي في مستويات منخفضة أثناء مرحلة التعافي. وفي ظل هذه الظروف، سيكون التحفيز المالي أمرا ملائما وبالغ الفعالية في معظم الاقتصادات المتقدمة. وسيؤدي هذا إلى تسهيل الخروج من الإجراءات الاستثنائية التي استُحدِثَت أثناء الأزمة.
جيوفاني ديلاريتشا يعمل نائبا لمدير إدارة البحوث. وكان يعمل قبل ذلك في إدارة آسيا والمحيط الهادئ. وتشمل اهتماماته البحثية أنشطة الصيرفة، والائتمان من منظور الاقتصاد الكلي، والسياسة النقدية، والتمويل الدولي، والشرطية في برامج الإقراض والمعونة الدولية. ويحمل السيد ديلاريتشا درجة البكالوريوس من جامعة روما والدكتوراه في الاقتصاد من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، كما أنه زميل باحث في مركز بحوث السياسة الاقتصادية (CEPR).
أنطونيو سبيليمبيرغو حاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وهو يعمل في الصندوق منذ عام 1997 حيث يشغل حاليا منصب نائب مدير إدارة البحوث. وقد كان رئيسا لبعثات الصندوق المعنية بالبرازيل وإيطاليا وسلوفينيا وروسيا وتركيا. وهو زميل باحث في مركز بحوث السياسة الاقتصادية (CEPR) ومركز بحوث وتحليلات الهجرة (CreAm). وقد شارك في تحرير كتابي "البرازيل: الرواج والانفجار وطريق التعافي" (“Brazil: Boom, Burst, and the Road to Recovery”) و"العودة إلى المسار: النمو والتوظيف واستعادة التوازن في أوروبا" (“Getting Back on Track: Growth, Employment, and Rebalancing in Europe”)، وله أعمال منشورة في دوريات أكاديمية بارزة، منها American Economic Review، وReview of Economic Studies، وJournal of International Economics، وReview of Economics and Statistic، وAmerican Economic Journal: Macroeconomics.
باولو ماورو يعمل نائبا لمدير إدارة شؤون المالية العامة بالصندوق. وقد شغل من قبل عدة مناصب إدارية عليا في الإدارة الإفريقية وإدارة شؤون المالية العامة وإدارة البحوث بالصندوق، كما سبق له العمل كزميل أول في معهد بيترسن للاقتصاد الدولي وأستاذ زائر بكلية كاري لإدارة الأعمال بجامعة جونز هوبكنز خلال الفترة من 2014-2016. وقد نُشرت له عدة مقالات في الدوريات الأكاديمية ومنها "المجلة الفصلية للاقتصاد" (Quarterly Journal of Economics)، و"مجلة الاقتصاد النقدي" (“Journal of Monetary Economics”)، و"مجلة الاقتصاد العام" (“Journal of Public Economics”)، كما تم الاستشهاد به على نطاق واسع في الدوائر الأكاديمية ووسائل الإعلام الرائدة. وقد شارك في تأليف ثلاثة كتب تشمل “World on the Move: Consumption Patterns in a More Equal Global Economy”، و“Emerging Markets and Financial Globalization”، و“Chipping Away at Public Debt”.
جيرومين زيتلماير عاد إلى الصندوق في منصب نائب مدير إدارة الاستراتيجيات والسياسات والمراجعة في أغسطس 2019. وكان يعمل في السابق زميلا أول بمعهد بيترسن للاقتصاد الدولي، ومديرا عاما للسياسة الاقتصادية بوزارة الشؤون الاقتصادية الألمانية (2014-2016)، ومديرا للبحوث ونائبا لكبير الاقتصاديين في البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير (2008-2014) وخبيرا في صندوق النقد الدولي (1994-2008). وهو زميل باحث في مركز بحوث السياسة الاقتصادية (CEPR) وعضو في الشبكة البحثية (CESIfo)، كما قاد شبكة البحوث والسياسات المعنية بالبنيان الاقتصادي الأوروبي في مركز بحوث السياسة الاقتصادية (CEPR) أثناء الفترة 2018-2019. وللسيد زيتلماير أعمال منشورة في دوريات اقتصادية بارزة كما شارك في تأليف "العجز عن سداد الديون ودروس عقد من الأزمات" (Debt Defaults and Lessons from a Decade of Crises)، وهي دراسة لأزمات الدين السيادي أثناء التسعينات والألفينات. وهو حاصل على درجة الدكتوراه من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، ودرجة في الاقتصاد من جامعة بون.