Credit: DINphotogallery

السياسة الصناعية تعود، ولكن كفاءتها هدف صعب المنال

هناك حاجة إلى المزيد من البيانات والتحليل والحوار لتجنب الأخطاء المكلفة

اعتادت الحكومات في الماضي على استخدام تدخلات موجهة معروفة باسم السياسة الصناعية لجعل المنتجين المحليين أكثر قدرة على المنافسة أو لتعزيز النمو في صناعات مختارة. وبينما استمرت السياسة الصناعية في بعض البلدان النامية، فقدت شعبيتها في معظم أنحاء العالم لسنوات، بسبب تعقيدها ومنافعها غير المؤكدة.

وحاليا، يبدو أن السياسة الصناعية قد عادت في كل مكان. فقد أثارت الجائحة والتوترات الجغرافية-السياسية المتزايدة وأزمة المناخ شواغل حيال صلابة سلاسل الإمداد، والأمن الاقتصادي والقومي، وقدرة الأسواق بوجه عام على توزيع الموارد بكفاءة ومعالجة تلك الشواغل. ونتيجة لذلك، واجهت الحكومات ضغوطا لاتخاذ موقف أكثر فعالية إزاء السياسة الصناعية.

وقد ناقش الاقتصاديون طويلا مزايا* السياسة الصناعية ومساوئها. فمن شأن هذه التدابير أن تساعد في معالجة إخفاقات السوق، مثل التدخلات المرتبطة بالتحول المناخي. ولكن السياسة الصناعية مكلفة، ومن الممكن أن تؤدي إلى أشكال مختلفة من إخفاقات الحكومة، بداية من الفساد وحتى سوء توزيع الموارد. كذلك يمكن أن تؤدي السياسات الصناعية إلى تداعيات مدمرة عبر الحدود، مما يزيد من خطر التدابير الانتقامية من جانب بلدان أخرى، وهو ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى ضعف النظام التجاري متعدد الأطراف وتفاقم التشرذم الجغرافي-الاقتصادي*. وهناك حاجة إلى المزيد من البيانات، والمزيد من التحليل، والمزيد من الحوار لتجنب الأخطاء المكلفة.

وفي هذه التدوينة، نكشف النقاب عن عودة السياسة الصناعية ونطرح ثلاثة أسئلة عن الأسباب وراء هذه العودة، وما تنطوي عليه من مفاضلات، ودور صندوق النقد الدولي في هذا الصدد.

الموجة الجديدة

تعاون صندوق النقد الدولي مؤخرا مع مرصد التجارة العالمية* لمراقبة التطورات. وحسب بحثنا الجديد*، شهد العام الماضي تنفيذ ما يزيد على 2500 تدخل في إطار السياسات الصناعية حول العالم. وأدى أكثر من ثلثي هذه التدخلات إلى تشويه التجارة، حيث ساهمت على الأرجح في التمييز ضد المصالح التجارية الأجنبية. والجهود المبذولة لجمع هذه البيانات هي أولى الخطوات نحو فهم الموجة الجديدة من السياسات الصناعية.

blog041224-arabic-chart1

وجاءت الطفرة الأخيرة في حجم هذه التدابير مدفوعة بالاقتصادات الكبيرة، حيث شكل كل من الصين والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ما يقرب من نصف جميع التدابير الجديدة في عام 2023. ويبدو أن الاقتصادات المتقدمة كانت أكثر إقبالا على تلك التدابير مقارنة بالأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. وتعد بيانات العقد الماضي أقل دقة، ولكن المعلومات المتاحة تشير إلى أن استخدام الدعم في الماضي كان أكثر شيوعا في الاقتصادات الصاعدة، مما ساهم في بقاء عدد كبير من التدابير القديمة حتى الآن.

blog041224-arabic-chart2

وفي الآونة الأخيرة، تركز التدابير بدرجة أكبر على التحول الأخضر والأمن الاقتصادي، وبدرجة أقل على القدرة التنافسية. وفي العام الماضي، كانت القدرات التنافسية هدف ثلث جميع تدابير السياسات الصناعية. وكان الدافع وراء الثلثين المتبقيين هو تخفيف آثار تغير المناخ، وصلابة سلاسل الإمداد، والاعتبارات الأمنية.

blog041224-arabic-chart3

ومن المثير للاهتمام أن القطاعات الأكثر تحركا في هذا الاتجاه كانت المنتجات ذات الاستخدام العسكري-المدني المزدوج والتكنولوجيات المتقدمة، بما في ذلك أشباه الموصلات والتكنولوجيات منخفضة الكربون، ومكوناتها، مثل المعادن الحيوية.

وتهدف السياسة الصناعية إلى إعادة توزيع الموارد على شركات أو صناعات أو أنشطة محلية محددة تخفق قوى السوق في النهوض بها في إطار اجتماعي فعال. ولكن تحقيق المنافع الاقتصادية الصافية المرجوة يقتضي إحكام تصميم هذه التدخلات، مما يعني ضرورة توجيهها نحو تصحيح إخفاقات السوق الواضحة، واستنادها إلى مبادئ تعزيز المنافسة والتحليل الدقيق للتكاليف والمنافع.

ونظرا لأن السياسة الصناعية تهدف إلى تعديل الحوافز المقدمة للشركات الخاصة، فإنها تنطوي كذلك على خطر سوء توزيع الموارد وسيطرة الصناعات على الحكومات بمرور الوقت. ويمكن أن تؤثر أيضا على التجارة والاستثمار والتدفقات المالية وأسعار السوق العالمية، مما قد يكون له انعكاسات هائلة على الشركاء التجاريين والاقتصاد العالمي.

وأجرى خبراء الصندوق مؤخرا تحليلا للسياسات الصناعية الجديدة أكد على ضرورة توخي الحذر.

  • لم يكن هناك رابط واضح دائما بين التدابير التي تم الإعلان عنها أو تنفيذها في العام الماضي وإخفاقات السوق. ويعني ذلك أن السياسات المحكمة التي تهدف إلى تحسين بيئة الأعمال عموما كانت الخيار الأنسب في بعض الحالات مقارنة بالتدخلات الحكومية الموجهة التي تنطوي على مخاطر سوء توزيع الموارد وتكلفة محتملة كبيرة على المالية العامة.
  • ويقدم البحث الذي أجراه خبراء الصندوق شواهد إضافية على ديناميكية مبدأ العين بالعين، حيث تتزايد احتمالات التدخل في منتج ما إذا كان هدفا لتدخلات شركاء تجاريين آخرين في السابق. وفي الواقع، كثيرا ما تؤدي تدابير مثل الدعم إلى تداعيات عبر الحدود* قد تشجع ردود فعل مماثلة من حكومات أخرى.
  • وهناك شواهد أيضا على أن المصالح الخاصة يمكن أن تسيطر على السياسة الصناعية. ويوضح التحليل وجود ارتباط كبير بين عدد التدابير ومتغيرات الاقتصاد السياسي مثل قرب الانتخابات وأهمية بعض المنتجات في سلة التصدير، مما يشير إلى أن الحكومات قد تفضل الشركات القوية.

دور صندوق النقد الدولي

نظرا لحداثة العديد من تدابير السياسة الصناعية التي تم تنفيذها مؤخرا وأهميتها بالنسبة للاقتصاد الكلي، كثف خبراء الصندوق جهودهم في ثلاثة مجالات.

ازداد تركيز الصندوق على جمع البيانات وتحليل السياسات الصناعية لزيادة الوعي وإثراء مناقشات السياسات. وبالإضافة إلى المبادرة الجديدة لرصد البيانات، يدرس الخبراء حاليا مدى فعالية السياسات الصناعية في تحقيق الأهداف المعلنة، مثل الابتكار (راجع عدد إبريل 2024 من تقرير الراصد المالي) والأهداف المناخية*، فضلا عن تداعياتها عبر الحدود.

  • وفي مجال الرقابة الثنائية، يركز خبراء الصندوق على تقييم تدابير السياسات الصناعية التي يمكن أن تؤثر إلى حد كبير على الاستقرار الداخلي أو الخارجي للبلد، أو التي يُحتمل أن تؤدي إلى تداعيات كبيرة عبر الحدود. ويعتمد نطاق التحليلات والمشورة التي يقدمها الخبراء في مجال السياسات على نوع السياسة الصناعية وأهدافها، وكذلك على المعلومات والخبرات المتاحة. وتتضمن دراستان صادرتان عن الصندوق مؤخرا إطارا مفاهيميا ومبادئ توجيهية بشأن نطاق تغطية السياسة الصناعية في أنشطة الصندوق* الرقابية، بما في ذلك القضايا المتعلقة بالتجارة* والاتساق مع قواعد منظمة التجارة العالمية.
  • وأخيرا، يتعاون الصندوق مع منظمة التجارة العالمية لتشجيع الحوار متعدد الأطراف حول التجارة والسياسة الصناعية. وعُقد بالفعل اجتماع تقني في شهر فبراير حول سياسات تعزيز الصلابة بمشاركة العديد من البلدان والمنظمات الدولية الأخرى. والهدف هو توسيع نطاق هذه الجهود وتعميقها خلال الأشهر المقبلة. ويمكن أن تساهم هذه المناقشات في تعزيز تبادل المعلومات حول التدابير المتخذة وفعاليتها وتداعياتها، وأن تساعد في بناء فهم مشترك للمشكلات والحلول التعاونية الممكنة.

- للمزيد حول عودة السياسة الصناعية، استمع إلى أ*حدث نشراتنا الصوتية.

* باللغة الإنجليزية