تسليط الضوء على مخابئ الفساد والحوكمة الضعيفة

أقر المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي مؤخراً إطاراً جديداً لتعزيز مشاركة الصندوق بشأن قضايا الحوكمة والفساد في البلدان الأعضاء. وأود التطرق قليلاً إلى سبب أهمية ذلك وما يعنيه بالنسبة لعملنا.

تكاليف الفساد

كلنا يعلم أن للفساد عميق الجذور عواقب وخيمة على الاقتصاد، حيث يقوض قدرة البلدان على تحقيق نمو اقتصادي احتوائي ومستدام. 

وقد أصدرنا مؤخراً دراسة تجريبية تخلص إلى أن ارتفاع مستوى الفساد يرتبط بانخفاض ملحوظ في النمو والاستثمارات والاستثمار الأجنبي المباشر والإيرادات الضريبية. فنجد أن تراجُع مراتب البلدان من المُئين الخمسين إلى المُئين الخامس والعشرين على أحد مؤشرات الفساد أو الحوكمة يرتبط بهبوطٍ قدره نصف نقطة مئوية أو أكثر في نمو إجمالي الناتج المحلي السنوي للفرد، وانخفاض يتراوح بين 1.5% و2% في نسبة الاستثمار إلى إجمالي الناتج المحلي. وتشير نتائجنا أيضا إلى أن الفساد والحوكمة الضعيفة يرتبطان بارتفاع عدم المساواة وانخفاض النمو الاحتوائي.

وليس من الصعب أن نفهم هذه النتائج. فنحن نعلم أن الفساد يضعف قدرة الحكومة على تحصيل الضرائب، ويشوه الإنفاق بإبعاده عن الاستثمارات ذات القيمة في مجالات مثل الصحة والتعليم والطاقة المتجددة وتوجيهه نحو المشروعات المهدرة للموارد التي تحقق مكاسب قصيرة الأجل. ونعلم أن الفساد بمثابة ضريبة على الاستثمار – أو أسوأ من ذلك، نظرا لعدم اليقين بشأن ما يُطلب من رشاوى في المستقبل. ونعلم أيضاً أن الفساد يؤدي بالشباب إلى عدم الاستثمار في مهاراتهم وتعليمهم – لأن التقدم يعتمد على من يعرفون وليس ما يعرفون. ونعلم أن الفساد يضر بالفقراء، ويعوق الفرصة الاقتصادية والتحركية الاجتماعية، ويقوض الثقة في المؤسسات، ويتسبب في تفكيك النسيج الاجتماعي. والفساد عقبة كؤود أمام تحقيق "أهداف التنمية المستدامة".

تعزيز المشاركة

ونظراً لكل هذا، يعتبر تعزيز مشاركة الصندوق في جهود محاربة الفساد أمراً مبرراً وفي حينه. وتجدر الإشارة إلى أن العمل المعني بالفساد سيتم تضمينه في عملنا العام الذي يشجع الحوكمة الرشيدة في مجالات أساسية مثل الإدارة المالية العامة، والرقابة على القطاع المالي، ومكافحة غسل الأموال.

ومن الضروري توسيع نطاق التركيز ليشمل كل هذه المجالات. فأوجه الضعف في الحوكمة مضرة في حد ذاتها، لكنها تفتح الباب أيضاً لاستشراء الفساد. وحتى تصبح استراتيجيات مكافحة الفساد فعالة بالفعل، يتعين أن تتجاوز مجرد إلقاء الفاسدين في السجون، إذ أنها تتطلب إصلاحات تنظيمية ومؤسسية أوسع نطاقاً. فالمؤسسات القوية والشفافة والمسؤولة هي، في نهاية المطاف، "العلاج" الأكثر استمرارية للفساد. وبكلمات لوي برانديس الشهيرة، "يقال إن ضوء الشمس أفضل مطهر؛ ونور الكهرباء أكفأ شرطي."

ومن المزايا الأخرى لهذا المنهج الأوسع نطاقاً أن بإمكاننا استخدام أوجه الضعف في الحوكمة للمساعدة في تعزيز تقييمات الفساد، لأن الفساد غالباً ما يرتبط بسقطات في الحوكمة بوجه عام وكثيراً ما يصعب تقييمه.

وأود الإشارة إلى أن هذا الموضوع ليس جديداً بالنسبة لنا. فلدينا سياسة للحوكمة منذ عام 1997، وهي سياسة جيدة – حيث خلصت المراجعة التي أجريناها بشأنها إلى صحة المبادئ التي تقوم عليها. وتدعونا هذه السياسة إلى معالجة قضايا الحوكمة والفساد حين تكون بالغة التأثير على الاقتصاد الكلي، كما تدعونا للعمل مع المؤسسات الشريكة (وخاصة البنك الدولي) في مجالات خبرتها وألا نتدخل في الشؤون السياسية أو في الإنفاذ المتعلق بحالات منفردة.     

ولكن رغم الاتزان الذي تتسم به هذه المبادئ، فقد خلصت مراجعتنا إلى أن تنفيذها غير متوازن. ذلك أننا لم نكن في كل الأحوال متسقين في معاملة البلدان الأعضاء من حيث تطبيق نفس المعيار على نفس الأفعال. كذلك افتقرت تحليلاتنا إلى الوضوح في كثير من الأحيان.  

وسوف يتغير كل هذا. فقد اعتمدنا الآن إطاراً للمشاركة المعززة بشأن الحوكمة والفساد يهدف إلى معاونة البلدان الأعضاء في جهودها ذات الصلة على نحو أكثر منهجية وتجرداً وفعالية وصراحة.  

وكخطوة أولى، نعمل حالياً على وضع منهجية واضحة وشفافة لتقييم طبيعة أوجه الضعف في الحوكمة ودرجة حدتها. وسننظر في مجموعة واسعة من المؤشرات – جودة مؤسسات الميزانية التي تُستخدم في فرض الضرائب والإنفاق؛ وسلامة الرقابة على القطاع المالي؛ ونزاهة البنوك المركزية؛ وشفافية تنظيم السوق وحياديته؛ والوضوح المسبق للجوانب التي تنطوي عليها سيادة القانون وتتطلبها سلامة الاقتصاد، وخاصة إنفاذ العقود؛ وملاءمة الأطر الموضوعة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وبالطبع، سنجري تقييماً مباشراً لمدى حدة الفساد أيضاً.  

وستكون الخطوة التالية هي تقييم الأثر الاقتصادي لأوجه الضعف المحددة في مجالي الحوكمة والفساد، وتقديم توصيات بشأنها على صعيد السياسات حسب احتياجات كل بلد. ومن المهم أننا سننظر في هذه الجوانب ضمن أفق زمني أطول، نظراً لأن الحوكمة الضعيفة والفساد يضران بالاقتصاد ليس فقط بإحداث اضطرابات على المدى القصير وإنما أيضاً عن طريق الاضمحلال المؤسسي البطئ. وبالنسبة لبرامجنا الإقراضية، سننظر فيما إذا كانت هناك مشكلات تعوق قدرة البلدان على تنفيذ إصلاحاتها الاقتصادية.

جانب العرض في الفساد

وهناك عنصر آخر في هذا الصدد. فمن أبسط البديهيات أن الفساد في كل زمان ومكان ظاهرة تخلقها "يدان" – وهي عبارة مأخوذة بتصرف من كلمات قالها ميلتون فريدمان. فأمام كل رشوة تؤخذ هناك رشوة تُعطى. وكثيراً ما تكون الأموال التي يتم الحصول عليها عن طريق الفساد أموالاً مخبأة خارج البلاد – غالباً في القطاعات المالية للعواصم الكبرى. ومن الممكن جداً أن يكون لدى البلدان "أيدٍ نظيفة" في الداخل و"أيدٍ ملوثة" في الخارج.

وبالتالي لكي نكافح الفساد بحق، علينا التصدي لتيسير ممارسات الفساد في القطاع الخاص. ولتحقيق ذلك، سنشجع البلدان الأعضاء على التطوع بطلب تقييم أطرها القانونية والمؤسسية من جانب الصندوق – لمعرفة ما إذا كانت تجرم الرشوة الأجنبية وتلاحقها قضائياً وما إذا كانت لديها الآليات اللازمة لوقف ممارسات غسل الأموال الملوثة وإخفائها. ومما يثلج صدري أن تسعة بلدان – مجموعة السبعة مجتمعة بالإضافة إلى النمسا والجمهورية التشيكية - قد تطوعت بالفعل لإجراء هذا التقييم. ويعد هذا تصويتاً مهماً بالثقة في الإطار الجديد.

والآن، بعد أن حصلنا على الدعم الكامل من البلدان الأعضاء، يجب أن ننتقل إلى التنفيذ. ففي سياق عملنا الرقابي وفي برامجنا الإقراضية، نتوقع رؤية المزيد من التقييم والنقاش لقضايا الحوكمة والفساد. وسنعمل أيضاً على تنمية قدراتنا بدرجة أكبر في هذه المجالات حتى نساعد البلدان الأعضاء على تقوية ما لديها من أطر تنظيمية ومؤسسات.

وهدفنا هنا هو أن نتوخى الصراحة والدقة والشفافية والتجرد. وهذا بدوره يمنحنا مصداقية أكبر ويتيح لنا أداء مهمتنا بشكل أفضل.

وبالعودة إلى كلمات برانديس، أجدني على ثقة في أن تعزيز مشاركة الصندوق سيحقق للحوكمة والفساد ما يحققه الاستثمار في تكنولوجيا الطاقة الشمسية للبيئة – وهو تسخير قوة ضوء الشمس الهائلة لوضع الاقتصاد العالمي على مسار أصح وأكثر استدامة. وإذا جرت الأمور كما هو مخطط لها، لا بد أن تتلاشى تدريجياً تلك الأركان المظلمة التي لا يزال بإمكان الفساد أن يختبئ فيها. وإنني أتطلع إلى العمل عن كثب مع البلدان الأعضاء لكي نجعل ذلك حقيقة واقعة.

*****

كريستين لاغارد تشغل منصب مدير عام صندوق النقد الدولي. وبعد انتهاء مدتها الأولى البالغة خمس سنوات في هذا المنصب، أعيد تعيينها في يوليو 2016 لمدة ثانية. وهي فرنسية الجنسية وسبق لها العمل وزيرا لمالية فرنسا اعتبارا من يونيو 2007 إلى يوليو 2011، كما شغلت منصب وزير دولة للتجارة الخارجية لمدة عامين قبل ذلك التاريخ.

وتتمتع السيدة لاغارد بخبرة عملية واسعة وتاريخ مهني بارز كمحام في الشؤون العمالية ومكافحة الاحتكار، إذ كانت شريكا في مؤسسة المحاماة الدولية "بيكر آند ماكينزي" ثم اختارها الشركاء لتكون رئيسا للمؤسسة في أكتوبر 1999، وهو المنصب الذي ظلت تشغله حتى يونيو 2005 حين عينت في أول مناصبها الوزارية في فرنسا. والسيدة لاغارد حاصلة على درجات علمية من معهد العلوم السياسية وكلية الحقوق في جامعة باريس 10، حيث عملت محاضِرة أيضا قبل انضمامها لمؤسسة "بيكر آند ماكينزي" في عام 1981.