لا تزال الفروق بين البلدان في إمكانية الحصول على اللقاحات والقدرة على تقديم الدعم من خلال السياسات تخلق حالة من من التباعد المتزايد بين الاقتصادات المتقدمة من ناحية واقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية من ناحية أخرى. وفي مواجهة العجوزات المرتفعة ومستويات الدين التاريخية، تخطو البلدان التي لا تمتلك إلا فرصا محدودة للحصول على التمويل خطوات مصيرية تحتم عليها الموازنة الدقيقة بين تقديم الدعم الكافي والحفاظ على الاستقرار المالي.
ودون تدابير حاسمة لمعالجة هذه الهوة المتنامية، سيظل فيروس كوفيد-19 يحصد الأرواح ويدمر الوظائف، مما يلحق ضررا دائما بالاستثمار والإنتاجية والنمو في البلدان الأشد ضعفا. وستُحْدِث الجائحة مزيدا من الاضطراب في حياة الفئات الأشد ضعفا، وستشهد البلدان زيادة في الفقر المدقع وسوء التغذية، مما يطيح بكل أمل في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ومن ثم فإن تضييق الهوة التي أحدثتها الجائحة يتطلب عملا جماعيا لتعزيز فرص الحصول على اللقاحات، وتأمين التمويل الحيوي، وتسريع وتيرة التحول إلى عالم رقمي أكثر خضرة واحتواء للجميع.
تأمين التمويل
ونتيجة للجائحة، حدث ارتفاع حاد في مستويات الديون والعجوزات حتى تجاوزت مستوياتها المرتفعة التاريخية. ففي عام 2021، بلغ متوسط عجوزات المالية العامة الكلية 9,9% من إجمالي الناتج المحلي في الاقتصادات المتقدمة، و7,1% في اقتصادات الأسواق الصاعدة، و5,2% في البلدان النامية منخفضة الدخل. ومن المتوقع أن يشارف الدين الحكومي العالمي 99% من إجمالي الناتج المحلي بنهاية عام 2021.
وفي هذا السياق، أحدثت الإمدادات الحيوية التي قدمها الصندوق فارقا كبيرا في إنقاذ الأرواح والأرزاق. ولمواجهة الأزمة، قدم الصندوق تمويلا جديدا وتخفيفا لأعباء خدمة الدين بقيمة 117 مليار دولار إلى 85 بلدا. ويتضمن هذا مساعدات مالية إلى 53 بلدا منخفض الدخل ومساعدات في شكل منح لتخفيف مدفوعات خدمة الدين المستحقة على 29 من أفقر بلدانه الأعضاء وأكثرهم ضعفا. وتشير تقديراتنا إلى أن دعم الصندوق سمح بإنفاق إضافي بلغ نحو 0,5% من إجمالي الناتج المحلي في اقتصادات الأسواق الصاعدة وحوالي 1% من إجمالي الناتج المحلي في البلدان النامية. وقد كان التركيز الأكبر لهذا الدعم منصبا على أهم الأولويات.
وسمحت الأوضاع المالية العالمية المواتية للبلدان ذات المخاطر الائتمانية المنخفضة بتحقيق توسع كبير ودائم في الإنفاق الحكومي لمواجهة الجائحة. أما في البلدان التي تتمتع بفرص أقل للحصول على التمويل الخارجي، فمن المتوقع الآن أن ينخفض الإنفاق الأساسي إلى مستوى أقل مما أشارت إليه التنبؤات السابقة على الجائحة.
لحظة حاسمة
وهناك حاجة ملحة لاتخاذ إجراء متعدد الأطراف لسد فجوات الحصول على اللقاحات ووضع نهاية للجائحة. وقد قدم خبراء الصندوق مؤخرا اقتراحا في هذا الصدد، وأيدته منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، يحددون فيه نسبة التطعيم المستهدفة بما لا يقل عن 40% من سكان كل بلد بنهاية عام 2021، وما لا يقل عن 60% منهم بحلول منتصف 2022، مع ضمان توافر ما يكفي من أدوات التشخيص والعلاج. وهناك تقدم تم تحقيقه بالفعل على عدة أصعدة، وإن كان ينبغي إعطاؤه دفعة أكبر. كذلك قامت فرقة العمل المعنية بتوفير لقاحات كوفيد-19* بإطلاق لوحة بيانات مشتركة* تهدف إلى التحديد الواضح للثغرات في إتاحة أدوات التصدي لفيروس كوفيد-19 ومعالجتها على وجه السرعة.
وسيكون على البلدان أيضا أن تبحث كيف يمكن تعبئة الموارد المحلية وتعزيز جودة الإنفاق. فقد فاقمت جائحة كوفيد-19 حالة التجاذب بين الاحتياجات التنموية الكبيرة والموارد العامة الشحيحة. ولزيادة الإيرادات المطلوبة بشدة، ستحتاج الحكومات إلى تقوية النظم الضريبية. وينطوي ذلك على تحديات خاصة بسبب الضغوط* المفروضة على ضرائب الدخل من جراء التنافس الضريبي، ومشكلات تحديد القاعدة الضريبية، وأساليب التخطيط الضريبي المتعسف.
غير أن زيادة الإيرادات أمر ممكن، وسيتعين تحقيقه بصورة تدعم لنمو وتولي اهتماما لاعتبارات الشمول. وينبغي للحكومات النظر في تحسين الكفاءة، وتبسيط القوانين الضريبية، والحد من التهرب الضريبي، وزيادة تصاعدية الضريبة. وسيكون من المهم أيضا تعزيز قدرة الدول على تحصيل الضرائب والاستفادة من دور القطاع الخاص. ومادامت الجائحة مستمرة، ينبغي أن تظل سياسة المالية العامة متيقظة وسريعة الاستجابة للظروف دائمة التغير.
ويمكن أن تساعد التحركات الجماعية على تضييق الفجوات. والصندوق الذي أنشأته "خطة الجيل القادم للاتحاد الأوروبي" (NGEU)، والذي تصل نسبه المنح فيه إلى 50%، كان مصدرا مهما لتمويل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ذات الحيز المالي المحدود. وتمثل إتاحة الدعم من خلال هذه الخطة وانخفاض تكاليف الاقتراض عاملين حاسمين في تفسير انعدام التباعد المتوقع بين مسارات الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الأسواق الصاعدة في الاتحاد الأوروبي.
وبالتالي، سيكون على المجتمع الدولي القيام بدور رئيسي في تأمين التمويل للبلدان الأشد ضعفا. وسيتيح التوزيع العام المقرر أن يجريه الصندوق لما يعادل 650 مليار دولار من مخصصات حقوق السحب الخاصة والذي تمت الموافقة عليه مؤخرا مصدرا تستمد منه البلدان هوامش سيولة إضافية ويساعدها على التعامل مع ما يواجهها من مفاضلات صعبة بين السياسات. وسيكون تحويل جانب من مخصصات حقوق السحب الخاصة من البلدان الثرية إلى البلدان النامية وسيلة أخرى لتعزيز هذا الدعم. ويتواصل الصندوق حاليا مع بلدانه الأعضاء بشأن تسهيل تمويلي جديد – هو "الصندوق الاستئماني للصلابة والاستدامة" – يهدف إلى مساعدة الاقتصادات الصاعدة والنامية على التصدي لتحديات تغير المناخ وبناء اقتصادات تتسم بالصلابة. غير أن هذه المساعدات لا تكفي وحدها، بل إن الأمر سيتطلب مصادر دعم أخرى من المانحين.
وإحدى الدلائل المشجعة في هذا الصدد ذلك الاتفاق التاريخي بشأن ضرائب الشركات الدولية والذي أيده عدد يتجاوز 130 بلدا عضوا. ويشمل الاتفاق حدا أدنى لضرائب دخل الشركات لا يقل عن 15%. وسيؤدي هذا الاتفاق إلى وقف التسابق على تطبيق أدنى المعدلات الضريبية على الشركات الدولية. ومن الضروري الانتهاء من وضع التفاصيل حتى يساعد الاتفاق على توفير الموارد للاستثمارات الحيوية في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية والإنفاق الاجتماعي في البلدان النامية.
إن هذه الدلالة الواعدة تشير إلى وجود فرصة سانحة. والإلحاح الذي تتسم به التحديات العالمية – كوفيد-19، وتغير المناخ، والتنمية الاحتوائية – يتطلب تحركا عالميا. وتمثل هذه لحظة تاريخية حاسمة. وينبغي أن يكون 2021 هو عام تضافر الهمم.
* بالانجليزية
*****
فيتور غاسبار من مواطني البرتغال، ويعمل مديرا لإدارة شؤون المالية العامة بصندوق النقد الدولي. وقبل انضمامه إلى الصندوق، تقلد العديد من المناصب الرفيعة المتعلقة بالسياسات الاقتصادية في البنك المركزي البرتغالي، بما في ذلك منصبه الأخير كمستشار خاص. وسبق للسيد غاسبار أن تقلد منصب وزير دولة ووزير للشؤون المالية في البرتغال في الفترة 2011-2013، وكان رئيسا لمكتب مستشاري السياسات الأوروبية التابع للمفوضية الأوروبية في الفترة 2007-2010 ومديرا عاما للبحوث في البنك المركزي الأوروبي من 1998 إلى 2004. والسيد غاسبار حاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد بالإضافة إلى دبلومة لاحقة للدكتوراه من جامعة Universidade Nova de Lisboa؛ كما دَرَس في جامعة Universidade Católica Portuguesa البرتغالية أيضا.
غيتا غوبيناث تشغل منصب المستشار الاقتصادي ومدير إدارة البحوث بصندوق النقد الدولي. وهي في إجازة للخدمة العامة من إدارة الاقتصاد في جامعة هارفارد حيث تشغل كرسي أستاذية "جون زوانسترا" في الدراسات الدولية والاقتصاد.
وللسيدة غوبيناث أبحاث تركز على قضايا التمويل الدولي والاقتصاد الكلي، وقد نُشِرَت في كثير من الدوريات الاقتصادية البارزة، كما أنها كتبت العديد من المقالات البحثية عن أسعار الصرف، والتجارة والاستثمار، والأزمات المالية الدولية، والسياسة النقدية، والدين، وأزمات الأسواق الصاعدة.
والسيدة غوبيناث هي المحرر المشارك للطبعة الحالية من "دليل الاقتصاد الدولي" (Handbook of International Economics) وكانت من قبل المحرر المشارك لدورية American Economic Reviewومدير تحرير دورية Review of Economic Studies. وسبق لها العمل مديراً مشاركاً لبرنامج التمويل الدولي والاقتصاد الكلي في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية (NBER)، وباحثاً زائراً لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي في بوسطن، وعضواً في الفريق الاستشاري الاقتصادي لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك. وفي الفترة 2016-2018، تولت منصب المستشار الاقتصادي للوزير الأول بولاية كيرالا الهندية. كذلك كانت عضواً في "مجموعة الشخصيات البارزة الاستشارية" المعنية بشؤون مجموعة العشرين لدى وزارة المالية الهندية.
والسيدة غوبيناث زميل منتخب لأكاديمية الآداب والعلوم الأمريكية وجمعية الاقتصاد القياسي، وحاصلة على "جائزة الخريج المتميز" من جامعة واشنطن. وفي عام 2019، اختارتها مجلة "السياسة الخارجية" ضمن قائمة المفكرين العالميين البارزين، وفي عام 2014، سماها صندوق النقد الدولي ضمن أفضل 25 اقتصادياً تحت سن الخامسة والأربعين، كما اختارها المنتدى الاقتصادي العالمي في 2011 باعتبارها "قائدة عالمية شابة" (YGL). وقد منحتها الحكومة الهندية جائزة "برافاسي بهاراتيا سامان"، وهي أعلى جائزة فخرية تمنح لمواطني الهند المقيمين في الخارج. وقبل الانضمام إلى هيئة التدريس بجامعة هارفارد في 2005، عملت أستاذاً مساعداً للاقتصاد في كلية بوث لإدارة الأعمال التابعة لجامعة شيكاغو.
ولدت السيدة غوبيناث في الهند، وهي تحمل الجنسية الأمريكية وشهادة "مواطِنة في الخارج" التي تمنحها الهند لأصحاب الأصول الهندية. وهي حاصلة على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة برينستون عام 2001 بعد حصولها على درجة البكالوريوس من كلية ليدي شري رام في جامعة دلهي والماجستير من كل من كلية دلهي للاقتصاد وجامعة واشنطن.