(الصورة: Stefan Lipsky/IMF) (الصورة: Stefan Lipsky/IMF)

الظل المديد لكوفيد-19: التداعيات الاجتماعية للجوائح

ضربت جائحة الكوليرا الكبرى باريس في عام 1832. وفي غضون بضعة أشهر فقط، أودى المرض بحياة 20 ألفا من سكان المدينة البالغ عددهم آنذاك 650 ألف نسمة. وحدثت معظم الوفيات في قلب المدينة، حيث كان يعيش عدد كبير من العمال الفقراء في ظروف بائسة بعد أن جذبهم إلى باريس بريق الثورة الصناعية. وتسبب انتشار المرض في احتدام التوترات الطبقية، إذ ألقى الأغنياء باللائمة على الفقراء لاستشراء المرض وظن الفقراء أن هناك من يدس لهم السم. وسرعان ما بدأت مشاعر العداء والغضب تتجه إلى الملك الذي يفتقر إلى الشعبية. وكانت جنازة الجنرال لامارك – ضحية الجائحة والمدافع عن قضايا الشعب – هي الشرارة التي أطلقت مظاهرة كبيرة مناهضة للحكومة في الشوارع المحصنة بالمتاريس، وكلها مشاهد خلدها فيكتور هوجو في روايته الشهيرة البؤساء. ويشير المؤرخون إلى أن تفاعل الجائحة مع التوترات السابقة على ظهورها كان سببا أساسيا لما أصبح معروفا باسم "انتفاضة باريس" لعام 1832، وهو ما يمكن أن يفسر* بدوره ما أعقب ذلك من قمع حكومي وتمرد شعبي في العاصمة الفرنسية في القرن التاسع عشر.

ومن طاعون جوستنيان والموت الأسود* إلى وباء الإنفلونزا عام 1918*، يزخر التاريخ بأمثلة لفاشيات مرضية ألقت بظلال طويلة الأمد من التداعيات الاجتماعية طويلة الأمد، فغيرت شكل السياسة، وقوضت النظام الاجتماعي، وبعضها أسفر في نهاية المطاف عن قلاقل اجتماعية. لماذا؟ أحد الأسباب الممكنة هو أن الوباء يمكن أن يكشف أو يفاقم الصدوع التي يعاني منها المجتمع، مثل شبكات الأمان الاجتماعي غير الملائمة، أو عدم الثقة في المؤسسات، أو تصور اللامبالاة أو عدم الكفاءة أو الفساد من جانب الحكومة. وعلى مدار التاريخ أيضا، أدى تفشي الأمراض المعدية إلى رد فعل عرقي أو ديني عنيف أو تسبب في تفاقم التوترات بين الطبقات الاقتصادية.

ورغم كثرة الأمثلة في هذا الصدد، فإن الأدلة الكمية على الرابطة بين الأوبئة والقلاقل الاجتماعية ضئيلة ومحصورة في حوادث معينة*. ويسد بحث خبراء الصندوق الصادر مؤخرا* هذه الثغرة بتقديم أدلة عالمية على هذه الرابطة في العقود الأخيرة.

وأحد التحديات الرئيسية أمام البحث في القلاقل الاجتماعية هو تحديد تاريخ وقوعها. وبالرغم من توافر مصادر المعلومات عن هذه القلاقل، فإن معدل تواترها منخفض أو يتسم بعدم اتساق التغطية. ولمعالجة مواطن القصور هذه، تستخدم دراسة أصدرها خبراء الصندوق* مؤخرا مؤشرا يقوم على التغطية الصحفية للقلاقل الاجتماعية لاستحداث "مؤشر القلاقل الاجتماعية المنشورة إعلاميا" (RSUI). ويتيح هذا مقياسا شهريا متسقا للقلاقل الاجتماعية في 130 بلدا من عام 1985 إلى الآن. وتتسق الارتفاعات الحادة في خط المؤشر اتساقا وثيقا مع مواصفات القلاقل التي سردتها مجموعة متنوعة من دراسات الحالة، مما يشير إلى أن المؤشر يرصد الأحداث الحقيقية وليس التحولات في المزاج أو الاهتمام السائدين في وسائل الإعلام.

وباستخدام هذا المؤشر، تخلص دراسة خبراء الصندوق إلى أن البلدان التي أصابتها أوبئة أكثر تواترا وحدة شهدت أيضا قلاقل أكبر في متوسط الحالات.

البلدان التي تتعرض لأوبئة متكررة وحادة تشهد أيضا قلاقل أكبر في المتوسط

وأثناء الجائحة وبعدها مباشرة، قد لا تظهر سريعا الآثار الاجتماعية الغائرة التي تتخذ شكل قلاقل. فواقع الأمر أن الأزمات الإنسانية يُرجح أن تعوق سبل الاتصال والنقل اللازمة لتنظيم أي احتجاجات كبيرة. وبالإضافة إلى ذلك، فمن المحتمل أن يفضِّل الرأي العام التماسك والتضامن في أوقات الخطر. وفي بعض الحالات، قد تغتنم النظم القائمة أيضا فرصة الطوارئ لتعزيز سلطتها وقمع الآراء المخالفة. وتتسق تجربة كوفيد-19 مع هذا النموذج التاريخي، حتى الآن. والواقع أن عدد أحداث القلاقل الكبرى على مستوى العالم قد انخفض إلى أدنى مستوياته مقارنة بالخمس سنوات الأخيرة تقريبا. ومن بين الاستثناءات البارزة حالتا الولايات المتحدة ولبنان، وحتى في هاتين الحالتين، ترتبط أكبر الاحتجاجات بقضايا من الممكن أن تتفاقم، ولكنها ليست نتيجة مباشرة لجائحة كوفيد-19.

القلاقل وسهولة التنقل تراجعتا أثناء جائحة كوفيد-19  

ولكن بالنظر إلى أبعد من العواقب المباشرة، نجد أن مخاطر القلاقل الاجتماعية تشهد ارتفاعا حادا على المدى الأطول. وباستخدام المعلومات* المتوافرة عن أنواع القلاقل، تركز دراسة خبراء الصندوق على الشكل الذي عادة ما تتخذه هذه القلاقل بعد الأوبئة. ويشير هذا التحليل إلى أن مخاطر أحداث الشغب والمظاهرات المناهضة للحكومة ترتفع مع مرور الوقت. وبالإضافة إلى ذلك، تجد الدراسة أن هناك أدلة على ارتفاع مخاطر حدوث أزمة حكومية كبيرة – أي حدث يهدد بسقوط الحكومة وعادة ما يقع في العامين اللاحقين للوباء الحاد.

وإذا كان التاريخ عاملا للتنبؤ، فقد تظهر القلاقل مجددا حين تخف حدة الجائحة. وقد تكون التهديدات أكبر في الحالات التي تكشف فيها الأزمة عن مشكلات سابقة عليها*، كالافتقار إلى الثقة في المؤسسات أو ضعف الحوكمة أو الفقر أو عدم المساواة، أو تتسبب في تفاقم هذه المشكلات.

هذا المقال ظهر أولا في نشرة IMF Research Perspectives*

* بالانجليزية

*****

فيليب باريت يعمل اقتصاديا في إدارة البحوث بالصندوق. ومنذ التحاقه بالصندوق في عام 2016، عمل في إدارة شؤون المالية العامة وإدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، حيث غطى قضايا أفغانستان وإيران. وتشمل اهتماماته البحثية سياسة المالية العامة، والقلاقل الاجتماعية، وتغير المناخ. وهو حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة شيكاغو.

صوفيا تشِن تعمل اقتصادية في إدارة البحوث بالصندوق. وكانت في السابق اقتصادية في الإدارة الأوروبية، حيث غطت برنامج الصندوق في قبرص. وتشمل اهتماماتها البحثية الروابط المالية/الاقتصادية الكلية، والصيرفة، وتمويل الشركات، وسياسة المالية العامة. وهي حاصلة على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة ميشيغان.

نان لي تعمل اقتصادية أولى في الإدارة الإفريقية بالصندوق ومحررة مشاركة في دورية IMF Economic Reviewالصادرة عن الصندوق. وتشمل اهتماماتها البحثية مجالات التمويل الدولي، والتجارة، والنمو الاقتصادي. وقد عملت في السابق في إدارة البحوث ومعهد تنمية القدرات بالصندوق، وكانت أستاذا مساعدا في جامعة ولاية أوهايو، ولها أعمال منشورة في دوريات أكاديمية متنوعة. وهي حاصلة على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة ستانفورد.

مدونات حديثة