مجلة التمويل والتنمية, ديسمبر 2017 • المجلد 54 • العدد 4    النص

آمال وليدة

الانتفاضات العربية ربما تكون قد بدأت مسارا طويلا للتحول في المنطقة

مروان المعشّر

بدأت شرارة الانتفاضات المناهضة للحكومات في تونس في أواخر عام 2010 وما لبثت أن انتشرت في معظم أرجاء العالم العربي. ومن الواضح أنها لم تؤد بسرعة إلى إقامة بلدان ديمقراطية على النحو الذي عقد عليه الكثيرون الآمال. بل إن كل البلدان تقريبا عادت مجددا إلى الحوكمة غير الرشيدة التي كانت سائدة منذ قرابة السبع سنوات وتسببت في إشعال الثورة عبر بلدان المنطقة.

ولم تكن المظاهرات الاحتجاجية في شوارع ليبيا وسوريا واليمن أدوات فعالة لبناء الدولة - ولا تزال هذه البلدان تعاني من الصراعات والحروب الأهلية. وفي مصر سيطرت قوى الثورة المضادة في سياق من الاستقرار المؤقت والخادع في الغالب الذي فشل في تحسين الأوضاع الاجتماعية/الاقتصادية للمواطن العادي. أما دول الخليج فقد قاومت موجة التغيير بوسائل مالية في البداية – رغم مواردها المتناقصة حاليا - دون السماح بأي فرصة للمساهمة الفعالة من جانب المواطنين التواقين للمشاركة في صنع القرار الوطني.

وفي الأردن والمغرب، عملت الحكومات على تهدئة المواطنين عن طريق الجمع بين الإصلاحات المخصصة غير الهادفة إلى التأثير على هيكل السلطة، وتخويف الرأي العام من احتمال أن تؤدي الاحتجاجات إلى ما آل إليه الحال في بلدان الجوار - مصر وليبيا بالنسبة للمغاربة ومصر وسوريا بالنسبة للأردنيين. وهكذا عادت الأمور إلى سابق عهدها دون معالجة جوهرية للتحديات الملحة التي تواجه تلك البلدان.

وفي تونس فقط كانت الاحتجاجات إيذانا بمرحلة جديدة من بناء الدولة في تحرك توافقي يقوم على عملية يقودها المجتمع للاتفاق على عقد اجتماعي جديد.

تحول تأخر كثيرا

ولكن إذا كان ما يطلق عليه الربيع العربي قد فشل في تغيير الوضع الراهن بسرعة، فربما يكون قد بدأ مسار التحول الذي تأخر طويلا، كما حدث في تونس. ولا شك في أن نتائج هذه العملية ستظهر للعيان بعد عقود، ولكنها يمكن أن تؤدي، إذا حُسنت إدارتها، إلى خلق مجتمعات أكثر انفتاحا واعتمادا على الجدارة في مختلف أنحاء المنطقة.

ويرجع هذا إلى أن المطالبات بتحسين الحوكمة لم تنطفئ جذوتها. ورغم استمرار سيطرة النظم القديمة على زمام الأمور، فإن التصدع بدأ يصيب العقود الاجتماعية التي حكمت معظم العالم العربي أجيالا طويلة. وكانت الركيزتان الأساسيتان لما يسمى بالنظام الريعي هما الأساس الذي تقوم عليه هذه العقود الاجتماعية – المفروضة في الغالب من السلطات الحاكمة وليس الناتجة عن اتفاق ترتضيه الأطراف الاجتماعية المختلفة. وتنص الركيزة الأولى على أن الحكومات مسؤولة في الأساس عن توفير مستوى ملائم من الخدمات الصحية والتعليمية والوظائف والدعم للسلع الأولية الأساسية – في سخاء أتاحته وفرة الإيرادات النفطية. وفي المقابل، قبِل المواطنون الركيزة الثانية – وهي عدم إبداء الرأي في إدارة شؤونهم.

وقد استمر العمل وفق هذه العقود الاجتماعية بشكل أو بآخر ما دامت هناك مراعاة كافية للجزء الأول من هذه الصفقة. ولكنها انهارت بمجرد أن أصبحت الحكومات مثقلة بالأعباء ولم تعد قادرة على توفير خدمات وامتيازات كافية – وإن ظلت مُصِرّة على ألا يكون للمواطنين تمثيل مؤثر. وحاولت بعض الحكومات معالجة المشكلات الاقتصادية وحدها - عن طريق دفع الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة مع الاستمرار في كبح الإصلاح السياسي والحيلولة دون إرساء نظام للضوابط والتوازنات. وليس من الغريب أن نرى تفشي الفساد الذي لم يخضع لأي ضوابط. وأصبح الوضع أكبر من قدرة الكثيرين على التحمل فكان النزول إلى الشوارع.

وستؤدي أسعار النفط، التي يُتوقع أن تواصل الهبوط في المستقبل القريب، إلى التعجيل بنهاية النظام الريعي الذي أبقى على الاقتصادات غير الكفؤة لعقود عديدة. فلم يعد باستطاعة البلدان المنتجة للنفط أن تقوم بدور دولة الرعاية تجاه مواطنيها، بينما لم يعد باستطاعة البلدان المستوردة للنفط أن تعتمد على الموارد المقدمة في شكل منح من الدول المنتجة للنفط - أو تحويلات مواطنيها العاملين في تلك البلدان - لتمويل نظم الأُعطيات. وتتجاهل البلدان المنتجة والمستوردة للنفط على السواء أهمية التحول إلى نظم قائمة على الجدارة وضرورة إخضاع الحكومات للمساءلة، ومن ثم فهي تعرض نفسها للخطر.  

ويبدو هذا التحول لإخراج العالم العربي من المستنقع الراهن أمرا بديهيا، ولكن لا شك أن الكلام أسهل من الفعل. فقد أفرزت النظم الريعية القائمة منذ عقود طويلة طبقات سياسية من أصحاب المصالح الخاصة الذين لا يرغبون في اعتماد نظم تخضع للمساءلة وتقوم على الجدارة حتى لا يخسرون مراكزهم وامتيازاتهم. كذلك ولَّدت النظم الريعية بيروقراطيات تنقصها الكفاءة ولا ترغب في التحول إلى نظم اقتصادية أكثر إنتاجية أو لا تمتلك القدرة على إجراء هذا التحول. ومن الإشكاليات في هذا الصدد أيضا كيفية تمكين شرائح مجتمعية كاملة - اعتمدت طويلا على الدولة في الحصول على الوظائف والخدمات والدعم – لتصبح قادرة على تغطية احتياجاتها والمنافسة على الوظائف في القطاع الخاص. فالأمر يتطلب إرادة سياسية مستمرة لتحقيق التحول السياسي والاقتصادي التدريجي الذي تتطلبه نشأة مجتمعات مستقرة ومزدهرة - ويبدو أن هذه الإرادة السياسية غائبة إلى حد كبير في المنطقة اليوم.

نموذج تونس

ومع ذلك، فقد أثبتت تونس أن التغيير ليس مستحيلا. لكن من الوارد أن ظروف تونس الفريدة - فئة متوسطة كبيرة، ونقابات عمالية مستقلة، وتاريخ من النجاحات بشأن حقوق المرأة، ومعارضة إسلامية معتدلة – قد تجعل تكرار التجربة قريباً في أي بلد عربي آخر أمرا بعيد الاحتمال. وقد اتخذت تونس خطوات يمكن أن يسترشد بها أي مجتمع عربي يتطلع إلى إقامة حوار جديد يؤدي إلى الاستقرار والأمن. فالتونسيون أثبتوا أن أول خطوة في هذا الصدد هي الاتفاق على عقد اجتماعي جديد يعرّف الحقوق ويضمنها لكل مكونات المجتمع - العلمانية والدينية. وقد توصلت تونس إلى اتفاق من خلال مفاوضات مؤلمة وحلول توفيقية بين هذه الفئات المختلفة وليس عن طريق نتيجة غير قابلة للاستمرار تفرضها الحكومات أو الأغلبية أو قوة خارجية - كالولايات المتحدة في العراق.

ويؤيد الدستور التونسي الجديد حقوق جميع عناصر المجتمع، ويضمن ألا تتمكن أي فئة من فرض أسلوب حياتها على الفئات الأخرى، كما يتمسك بمبدأ انتقال السلطة بالطرق السلمية. وفي خطوة أتاحتها عقود من النضال النسائي في تونس من أجل المساواة في الحقوق، يقر الدستور الجديد حق المرأة في المساواة أمام القانون أكثر مما يقره أي دستور عربي آخر، ويمهد السبيل للمساواة في المواطنة، وهي مطلب حيوي في جهود أي مجتمع ينشد التطور بطريقة صحية. ولا يقل عن ذلك أهمية أن تونس برهنت على انتفاء التعارض بين الإسلام والديمقراطية وأن العناصر العلمانية والدينية يمكن أن تتفق على أن يكون الإطار الإرشادي للمسائل السياسية وثيقة إنسانية غير مستمدة من وحي إلهي.

هناك حاجة إلى إرادة سياسية مستمرة لتحقيق التحول السياسي والاقتصادي التدريجي الذي تتطلبه نشأة مجتمعات مستقرة ومزدهرة.

ولا شك أن تونس لا تزال بعيدة عن تحقيق الاستقرار أو الازدهار، نظرا لمشكلاتها السياسية والاقتصادية والأمنية الخطيرة. لكنها تعالج هذه المشكلات ضمن إطار قوي يتمثل في دستورها الجديد الذي تسترشد به فيما تتخذه من خطوات. ومن هنا تأتي أهمية النموذج التونسي وضرورة أن يدعمه المجتمع الدولي – مالياً وفنياً. فنجاح النموذج التونسي يمكن أن يكون ضوءا إرشاديا لبقية المنطقة إذا حاولت تغيير خطابها الحالي. وفي نفس الوقت، سيكون لفشلها تداعيات تتجاوز حدودها أيضا.

وينبغي أن يكون التحول تدريجيا من النظام الريعي إلى النظام القائم على الجدارة والإنتاجية. فمحركات النمو ينبغي أن تنتقل ببطء إلى القطاع الخاص الذي يمثل جهة التوظيف الرئيسة في هذا النظام بينما توفر الحكومات الخدمات التعليمية والصحية وتنظم النشاط الاقتصادي. ويجب إعطاء جميع المواطنين الأدوات التي تتيح لهم المنافسة، بما في ذلك وجود نظام تعليمي أحدث وأكثر انفتاحا وشمولا لمختلف شرائح المجتمع.

ويجب التخلي عن فكرة أن الإصلاح الاقتصادي يمكن أن ينجح دون عملية يتزامن فيها بناء المؤسسات السياسية مع خلق نظام للضوابط والتوازنات. فقد كان الفشل الذريع مآل المنهج الذي يقتصر تركيزه على الاقتصاد فقط والذي استمر عقودا طويلة في العالم العربي. ويجب أن تحقق العقود الاجتماعية الجديدة التوازن الصحيح بين الشواغل الاقتصادية والسياسية لتخفيف وطأة الإصلاحات الاقتصادية الضرورية والمؤلمة. ويتعين في هذا الصدد إعطاء المواطنين صوتا مؤثرا وإشراكهم في عملية صنع القرار.

تونسيون يلوحون بالأعلام أثناء تجمع في شارع الحبيب بورقيبة في تونس للاحتفال بالذكرى السادسة لثورة 2011.

نهاية عصر النفط

وقد أصبحت هذه العملية المؤلمة إلزامية عملياً، نظراً لنهاية عصر النفط في العالم العربي. وهنا يصبح دور المؤسسات المالية الدولية - كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي – دورا صعبا. ذلك أن الاختصاصات التقليدية لتلك المؤسسات تكاد تحظر تعرضها للقضايا السياسية، إلا أن اقتصار التركيز على الإصلاحات الاقتصادية التدريجية والبطيئة لم يحقق من النتائج الإيجابية إلا القليل. ولكي تظل للمؤسسات المالية الدولية مساهمة فعالة في عصر التحول الذي يشهده العالم العربي، عليها أن تجد وسائل جديدة لمساعدة البلدان على النجاح في جهودها الإنمائية. فعلى سبيل المثال، بدأ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في السنوات الأخيرة العمل مع المجتمع المدني والتركيز على سبل مكافحة الفساد والسعي لتحسين النظم التعليمية والصحية. وسيكون عليهما مضاعفة هذه الجهود عند العمل مع البلدان العربية في برامج الإصلاح الاقتصادي.

وقد أظهرت الانتفاضات العربية أن المنطقة تفتقر إلى مفهوم حديث للمواطنة. فمن الضروري تغيير نمط التفكير القديم الذي ينظر إلى المواطنين كرعايا غير مؤهلين للمساهمة في تحديد كيفية إدارة شؤونهم.

ويجب أن تنص كل العقود الاجتماعية الجديدة على مفهوم المواطنة المتساوية للجميع، بصرف النظر عن نوع الجنس أو التوجه السياسي أو الديني أو الأصل العرقي. ولن يستطيع أي مجتمع منح المواطنين إمكاناتهم الكاملة إلا بتمكينهم جميعا من منطلق المساواة بينهم أمام القانون. وقد عمدت بلدان عربية كثيرة إلى تشجيع أشكال ضيقة من الوطنية تركز على أهمية فئات بعينها. لكن عليها التركيز بدلا من ذلك على بناء هويات وطنية قوية تتفوق على كل الانتماءات الأخرى. وينبغي النظر إلى التنوع الثقافي والعرقي والديني في العالم العربي باعتباره موطن قوة وليس نقطة ضعف إذا كان للمجتمعات أن تتطور بصورة صحية.

دينية أم علمانية

مع وقوع انتفاضات العالم العربي، عاد إلى طاولة النقاش موضوع الاختيار بين اعتماد التوجه الديني أو العلماني في أطر الحكم الجديدة. وقد أدى ظهور جماعات متطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية (أو داعش) وغيرها من الأطراف الفاعلة غير المنتمية لدول إلى دفع الجماعات الإسلامية الأكثر اعتدالا مثل الإخوان المسلمين لأن تعلن تفضيلها القوي لإقامة دولة "مدنية"، سعيا لتجنب استخدام مصطلح "علمانية". ويربط معظم سكان المنطقة هذا المصطلح الأخير بالإلحاد والفصل الكامل بين الدين والسياسة. ورغم إعلان كل من القوى العلمانية والدينية أنها تؤيد الدولة المدنية، فإن الشيطان يكمن في التفاصيل. وباستثناء تونس، لا يزال النقاش مركزا بقوة على منهج "الفائز يحصد على كل شيء" بدلا من التركيز على معركة تحقيق التعددية بما يكفل لكل المجموعات حق العمل السلمي ويمنع أي مجموعة من فرض أسلوب حياتها على الآخرين.

ينبغي النظر إلى التنوع الثقافي والعرقي والديني في العالم العربي باعتباره موطن قوة وليس نقطة ضعف.

وإذا كان هناك أمل للمنطقة في تحقيق مجتمعات تعددية، فلا توجد مسألة تتطلب جهدا فوريا ومستمرا مثلما يتطلبه إصلاح التعليم. ويجب أن يذهب هذا الإصلاح إلى أبعد من المقاييس الكمية، مثل عدد الحواسيب في الفصول المدرسية وبناء المدارس، لتشمل النظر في القيم والمهارات التي تدرَّس والأساليب المستخدمة في تدريسها. ويتعين إدخال أنماط جديدة في التعليم وتشجيع التفكير الناقد للسماح بطرح التساؤلات حول ما يدرَّس وتشجيع الطلاب على التفكير بمنطقية وفضول. ويجب أن تقوم المدارس بتعليم قيمة التنوع وتفهيم الطلاب أنه لا توجد حقيقة مطلقة، وأن تقبّل وجهات النظر المختلفة أمر بالغ الأهمية، وأن تقدير الآراء الأخرى هو مفتاح الابتكار والتجديد. ومن نافلة القول إن هذه القيم تمثل شروطا مسبقة للتعددية والمساواة في المواطنة والدول المدنية.

وقد رفعت الانتفاضات غطاء حديديا عن المجتمعات العربية، غطاء حافظ لها على حالة من الاستقرار المصطنع وأخفى التحديات الحقيقية التي تواجهها المنطقة. وطريق النجاح الوحيد نحو الاستقرار والازدهار الطبيعي هو عملية طويلة ومؤلمة تشمل بناء المؤسسات واقتسام السلطة وتحقيق نمو أكثر احتواءً للجميع.



مروان المعشّر، نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.